الموضوع: يرى بعض المربين أن الكتاب ينبغي إبعاده عن
عملية التعليم، بحجة أن الكتب لاتعلمنا إلا الكلام فيما لانعلم. في حين يرى البعض
الآخر أن الكتاب هو الوسيلة الأولى والأساسية للحصول على المعرفة.
مقدمة:
لاينكر أحد ما للكتب من قيمة
عظمى في تزويد القارئ بمختلف أشكال المعرفة وألوانها،بل لما لعبته منذ اختراع
الكتابة حتى الآن من دور أساسي في خزن وحفظ كل التراث البشري المعرفي الذي تراكم
كثيرا عبر العصور. غير أنه إذا كانت للكتب هذه القيمة بالنسبة للمحافظة على تراث
الانسانية ، فإن هناك من يعترض على هذه القيمة في المجال التعليمي أي تبليغ
المعرفة ، إذ يعتبرها عديمة المعرفة ، وعائقا في سبيل الحصول على معرفة صحيحة ،
خصوصا في المراحل الأولى من التعليم.
فالموضوع الذي نحن بصدده يتعرض
لموقفين من الكتاب المدرسي ، فهناك من يعتمد عليه، ويجعله مفتاحا لاكتساب المعرفة
، ونقطة الانطلاق في العملية التعليمية،
وهناك من ينبذه ويعتبره عديم الفائدة وعائقا في سبيل الحصول على المعرفة ، خصوصا
في المراحل الأولى من التعليم لأنه لايعلم إلا الألفاظ.
وسنحاول تحليل الموضوع من خلال
مناقشة النقاط التالية:
1-
ماهو موقف الرافضين للكتاب المدرسي؟
2-
ماهو موقف المؤيدين له؟
3-
ماهو الاتجاه الذي ينبغي ان تتخذه إزاء الرأيين؟
التحليل:
1- يتزعم
الرافضين للكتاب المدرسي المربي الفرنسي جان جاك روسو ورواد الطرائق التنشيطية. إن
روسو يتطرق في موقفه إلى حد منع تلميذه من الاطلاع على أي كتاب قبل بلوغه الخامسة
عشرة،وذلك لأنه يفضل المعرفة الاتية من الأشياء نفسها أي من الطبيعة. وهو يكره
الكتب : لأنها لاتعلم المرء غير الكلام حول ما لايعلم. ويقول أيضا : ليس هناك من
كتاب يغني عن التجربة الشخصية وعن التفاعل المباشر مع الواقع.
وفي رأي روسو أن الحواس هي مفتاح
المعرفة . لذا يجب أن تكون الحواس مرشد الفكر ودليله في العملية الأولى:(إن أوائل
معلمينا في الحياة هم أرجلنا وأيدينا وأعيننا. وإحلال الكتاب محل هذه كلها،فهو
لايعلمنا الاستدلال بل يعلمنا استخدام عقول الآخرين ، ويعلمنا أن نعتقد كثيرا وأن
لانعرف شيئا عللا الاطلاق). واستعمال الكتب بدلا من الأرجل الأيدي والأعين
لايعلمنا التفكير مستقلين بأنفسنا . ولكنه يعلمنا التفكير بعقول غيرنا من المؤلفين
والكتاب. إن الأفكار التي يكونها الانسان بنفسه عن الأشياء أوضح وأكثر إقناعا من
تلك التي يكتسبها مما يتعلمه من الآخرين، ومن الكتب . ومن جهة أخرى يرى روسو بأن
الكتب هي مثال لبيئة اجتماعية، فهي كافية لتفسد على المربي كل تعليمه، خاصة إذا
قرأها الطفل ، ولما عنده ملكة الحكم ، ولما يفد من المعارف ما يسمح له بتقدير ما
فيها من صحيح وباطل، فتجعله في يد سواه، وتدفع به إلى التقليد ، وغلى مجاراة الوسط
الاجتماعي من غير تفكير وتقدير لما يكتبه غيره اعتمادا على أن هذا الغير أكثر منه
قدرة وأوفى منه عملا.
(إن الكتب تعلم الأطفال أن ياخذوا
كثيرا من غيرهم على سيبل الثقة ولانعلمهم أن يعرفوا شيئا بأنفسهم) والطفل إذا اتجه
إلى هذه الناحية ، فقد ذاتيته وضاع مجهود أنفق في تكوينه وتربيته.
أما الدراسات التي يوصي بها روسو
تلميذه فهي تقتصر على العلوم الطبيعية وعلى رأسها الفلك ثم الجغرافيا التي لاتدرس
عن طريق الخارطات ، بل عن طريق الأسفار ومعرفة الأشياء لذاتها.
إن دراسة الجغرافيا ترتكز على على
نقطتين أساسيتين : المدينة التي يقطن فيها الطفل ، وبيت جده في القرية ثم المسافة
بينهما بالإضافة إلى الأنهار ومظهر الشمس وكيفية شروقها.
وعندما يريد تعليم تلميذه الفيزياء
ينطلق من الطبيعة. ويعطينا مثالا على ذلك. بأخذه حجرا في يده، ثم يتركه يسقط ويسأل
تلميذه،،اميل،، عن سبب سقوطه.وعند عدم إجابته يتدخل هو ليوضح له ذلك أي أن سقوطها
راجع لوزنها. ولما كانت الطبيعة هي المصدر الأساسي للمعرفة ، فإن روسو يرى أن
الوسيلة الأساسية الرئيسية لاكتسابها هي الحواس، فالحواس هي أبواب المعرفة والعقل
والأفكار, إذن فلنحول إحساساتنا إلى افكار ، ولكن ينبغي ألا نقفز قفزة واحدة من
الأشياء المحسوسة إلى الأشياء الذهنية المعقولة عن طريق الأشياء المحسوسة ، إذن
فروسو يقلل من قيمة الكتب كمصدر للمعرفة ، ويعلي من قيمة الخبرة أو التجربة
الشخصية ومن مبادرة الطفل الذاتية. ففي المرحلة الاولى من حياته يجب أن تكون
تربيته تربية سلبية، يرى الأشياء بنفسه ويتفاعل معها.مستعملا تفكيره في سبيل
الحصول على المعرفة الحقيقية. أما المعرفة التي يحصل عليها من الكتب، فإنها
لاتعلمه إلا الكلام فيما لايعلم.
2- ويقف في الطرف الثاني مربون عديدون ، أعطوا للكتاب
حق الصدارة في اكتساب المعرفة الموسوعية، ونذكر منهم رابلي Rablai ومونتاني Montaigne وإيراسم Erasme ثم ألان Alain في القرن العشرين. وسنقف عند ألان الذي جاءت
آراؤه في معظمها كتيار معاكس لمبادئ ما اصطلح على تسميته بالتربية الحديثة. لذا
فهي تبدو غريبة. وإن كتبها بأسلوب فلسفي عميق،هو نتيجة تأثره بمؤلفات أفلاطون
وديكارت وهيجل وكانط ، وهو يبني هذه الآراء على فكرة أساسية، مفادها أن الطفولة
حالة متطورة تتوق للرجولة الكاملة. ومهمة التربية ألا تقفل الولد في بوتقة طفولته،
بل على العكس من ذلك ، أن تساعد على التخلص منها ليندفع مساعدا في اكتساب صفات
الرجولة الحقة. وهذا يخالف ما جاء به روسو في احترام الطفولة والاهتمام بحاضر
الطفل فقط. وبذلك فإن موقف كل منهما من الكتاب جاء منسجما مع نظرة كل منهما إلى
الطفل وإلى الغرض من التربية.
إن روسو الذي يعطي أهمية قصوى على حاضر
الطفل والاهتمام بطفولته ، يرى من الضروري إبعاد كل شيء يتدخل في نموه الطبيعي
السليم، ومنها الكتاب الذي لايزوده إلا بمعارف لايعرفها لأنه لم يستعمل فيها نزوعا
نحو الرجولة ، ويرى أن أسباب الوصول إلى هذا الهدف هو الاعتماد على الكتاب، والإكثار
من القراءة وحمل الطفل على إتقانها والتزود منها بقدر كبير من المعلومات.
ولم ينظر ألان نظرة رضى للآراء التي
تدعو إلى تعليم الأطفال بالمشوقات والألعاب التي يرى فيها وسائل للهو لا للتربية .
وانطلاقا من ذلك اعتبر القراءة مفتاحا للثقافة ونقطة الانطلاق في التعليم. وجعل
بكثير من المبالغة المواد الأخرى حتى العلمية منها ، وسائل لها، فهو يرى بأن
الكتابة والحساب يمكن أن تكتسب بسرعة، ولكن أن نقرأ هذا هو الصعب، ويعني بذلك
القراءة المريحة دون جهد، بطريقة تنصرف معها النفس عن الحروف للاهتمام بالمعنى،
وفي هذا الصدد يقول: (لو كنت زعيما للمتكلمين الظرفاء لجعلت كل الدروس دروس قراءة.
يقرأ التاريخ والجغرافيا والعلوم والأخلاق، وإذا لم يحفظ من جميع هذه القراءات إلا
فن القراءة فقط، لحكمت أن هذا كاف . ولطردت من مدارسنا كل أنواع الفصاحة، وهو بذلك
يجعل من القراءة غاية جميع الدروس:(لو كنت مديرا للتعليم ، لجعلت من واجبي الأول
تعليم القراءة لجميع المواطنين، وبهذا فقد أعطى ألان القراءة حق الصدارة واعتبرها الوسيلة التي تمكن
من فهم إنتاج الفكر الإنساني . فهي في نظره توصل الطفل إلى بلوغ الرجولة المتكاملة
، وذلك بالجد والتمرس والتمارين والصبر الطويل...
ولو تتبعنا آراء ألان لتخيلنا أن
برنامج التعليم في المدرسة هو حصة لانهائية من درس القراءة.(نقرأ ونعيد القراءة ،
كل بدوره وبصوت جهري، والباقون يتتبعون بصوت خافت، والمعلم يراقب، وعليه أن يعمل
الكثير في هذا المجال) بل هو لا يرى أي فائدة من تعاطي العلوم. إن لم تؤد إلى
ترسيخ عادة القراءة في المتعلم (أما فيما يعود لدروس الفيزياء والكيمياء والتاريخ
والأخلاق فإنني أعتبرها مضحكة إذا لم تمكننا في الدرجة الولى من قراءة الفيزياء
والكيمياء والتاريخ والأخلاق.)
3- وهكذا نرى روسو وألان يقفان على
طرفي نقيض، فحين يرفض الأول الكتب والمعلومات المحصلة عن طريقها ، يرى الثاني ان
القراءة هي وسيلة التعليم وغايته الأسمى .
وإذا أردنا أن نتخذ موقفا من الاتجاهين
السابقين، آخذين بعين الاعتبار مبادئ التربية الحديثة، والدور الذي تلعبه القراءة
والمطالعة في العصر الحديث، نجد أننا لا ينبغي أن ننساق مع كلا الموقفين المتطرفين
السابقين، بل ينبغي أن نتخذ مكانا وسطا بينهما. فلا يمكن الاستغناء عن الكتاب ،
وذلك نظرا لأهميته في حياتنا، ولا يمكن الاعتماد عليه كلية واعتباره هدفا، بل هو
وسيلة فقط ضمن الوسائل الأخرى المعتمدة في العملية التعليمية. وتجدر الإشارة إلى
أنه من الخطأ أن ننظر إلى الكتاب على أن الغرض منه هو أن نقدم إلى الأطفال –في شكل
مكثف- مواد المنهاج التي يجب أن يحفظوها ، فليس الكتاب مجرد مستودع للمعلومات فقط
بل هو أيضا أداة يقدم بعض الأفكار والمعاني الهامة التي يستفيد منها الأطفال في أسلوب
تفكيرهم وأن يدربهم على التفكير الواعي السديد ويوحي إليهم بتطبيق ما تعلموه
تطبيقا مفيد رشيدا.
الخاتمة:وأخيرا فإننا لا نستطيع أن نغلب رأي
مفكر على رأي آخر ، بل المطلوب هو أن نأخذ من آراء كل مفكر ما هو قريب من الصواب ،
وما يخدم الجوانب المتعددة من شخصية الطفل، إذ لا غنى لنا عن التربية الحسية
والتعلم عن طريق التجربة ، كما أننا لن نستغني عن الكتاب الذي هو وسيلة مهمة إلى
حد الآن لنقل التراث الإنساني.وإن الداء لا يرجع في الواقع إلى الكتاب، بحكم كونه
كتابا، وليس كل تعليم يستند إلى الكتب سيئ حتما، فالداء الحقيقي يرتد إلى الطريقة
السيئة في تأليف الكتب، وإلى عملية استخدام الكتب وإلى فصل هذه الوسيلة عن سائر
الوسائل التي تساعد في تكوين الطفل. ولكي تتحقق المر دودية الايجابية المتوخاة من
القراءة ينبغي العناية بانتقاء الكتب المفيدة ، وجعل محتواها ملائما للغايات
المرجوة من التعليم، وجعل مظهرها وأسلوب عرضها مسايرين لميول الأطفال ورغباتهم ،
وبنيتها موافقة لقدراتهم النفسية.
ليست هناك تعليقات: