تحميل الكتاب

الثلاثاء، 1 مايو 2018

المدرسة ومسألة التنمية المعرفية


المدرسة  ومسألة التنمية المعرفية

المدرسة ومسألة التنمية المعرفية.. لا تنمية مجتمعية بدون تنمية معرفية

بما أن المدرسة المعاصرة والحداثية أصبحت تعتبر رافعة استراتيجية في تحقيق نهضة المتجمعات وخصوصا المتخلفة منها أو التي في طريق النمو، فإنه من الطبيعي أن نجد مفهوم التنمية يحتل مساحات كبيرة في أشكال الخطاب والتدخل لهذه المجتمعات الأخيرة، غير أنه يتم التركيز بشكل كبير على مفهوم التنمية في بعديه الاقتصادي والسياسي، إلى حد ما - وذلك رغم تداول مفهوم التنمية الشاملة، حيث لازال هناك شبه إهمال للأبعاد الثقافية والمعرفية والتربوية والنفسية للتنمية المجتمعية الشاملة، لذا، سنحاول فيما يلي إلقاء بعض الأضواء على أهمية البعد المعرفي ، خاصةفي تحقيق التنمية المجتمعية المأمولة، وذلك من خلال الوظيفة التربوية والتكوينية للمدرسة كمؤسسة سوسيو- ثقافية ، استراتيجية وحاسمة، وذلك من خلال تنمية شخصيةالمتعلم، وخصوصا في أبعادها المعرفية والسوسيو- قيمية، ليكون مؤهلا وفاعلا أساسيا في المشروع التنموي والنهضوي لمجتمعه·
ولمقاربة ما سبق ، سنحاول إبراز أهمية وظيفة المدرسة كمؤسسة في تحقيق تنمية الفرد والمجتمع، من خلال بعض النماذج من الخطاب التربوي الإصلاحي الرسمي الجديد، ثم سنتطرق الى إبراز أهمية المدرسة في التنمية المعرفية والذهنية لشخصية المتعلم، عبر التعرف علي بعض البحوث الميدانيةالتي تؤكد ذلك، ثم سنقوم بالتعريف بما يسمى "التربية المعرفية" كتخصص ومقاربة حديثة تستجيب لحاجيات وأهداف التنمية المعرفية للفرد من أجل التنمية المجتمعية الشاملة،خاتمين بذكر المعارف الضرورية لتربية المستقبل، كما أوردها "إدغار موران" (Edgar Morin)، نظرا لأهميتها في تحقيق التنمية القيمية والمعرفية (الذهنية) لدى الفرد / المتعلم، ونتائجها التطبيقية المأمولة في التربية المدرسية لتحقيق التنميةالعلائقية بين-إنسانية على المستويات الفردية والمحلية والعالمية·
*المدرسةوالتنمية في الخطاب التربوي الرسمي
إن الدينامية الجديدة التي خلقها إصلاحالمنظومة التربوية أخيرا، قد خلص نسبيا المدرسة من الخطاب التربوي التقليدي، الذيكان يعطي للمدرسة وبشكل كبير، دورا إيديو- معرفيا ومحافظا·· ويرى بأن المدرسة ليسلها أي وظيفة في التنمية والتقدم، حيث أنها مجرد مؤسسة غير منتجة، وشكل عبئا ثقيلا وزائدا على الدولة (ماليا وسياسيا)··· فأصبحت المدرسة - مع الخطاب الإصلاحي الحداثي - عاملا أساسيا في تحقيق التنمية البشرية والمتجمعية الشاملة، وذلك من خلالالاعتماد الرسمي لفلسفات ومقاربات اقتصادية وتربوية واجتماعية عقلانية وحداثيةوفعالة، ويمكننا أن نلمس هذا من خلال الميثاق الوطني للتربية والتكوين، حيث "يرومنظام التربية والتكوين الرقي بالبلاد، الى مستوى امتلاك ناصية العلم والتكنولوجياالمتقدمة، وللإسهام في تطويرها، بما يعزز قدرة المغرب التنافسية، ونموه الاقتصاديوالاجتماعي والإنساني، في عهد يطبعه الانفتاح على العالم" كما نجد بأن الاختياراتالتربوية الموجهة لمراجعة مناهج التربية والتكوين المغربية (الواردة في الكتابالأبيض) "تنطلق من العلاقة التفاعلية بين المدرسة والمجتمع، باعتبار المدرسة محركاأساسيا للتقدم الاجتماعي وعاملا من عوامل الإنماء البشري المندمج، ومن إعدادالمتعلم المغربي لتمثل واستيعاب انتاجات الفكر الإنساني في مختلف تمظهراتهومستوياته، ولفهم تحولات الحضارات الإنسانية وتطورها، وإعداد المتعلم المغربيللمساهمة في تحقيق نهضة وطنية اقتصادية وعلمية وتقنية، تستجيب لحاجات المجتمعالمغربي وتطلعاته، وكذلك لكي يكون النظام التربوي المغربي في مستوى مواجهة تحدياتالعصر ولتحقيق تنمية اجتماعية واقتصادية تضمن للفرد الإندماج في المجتمع، وقدرتهعلى التفاعل في النسيج الدولي، كان لزاما عليه تبني فلسفة تربوية تضمن التربيةالمستدامة للفرد والمجتمع، مادامت التربية هي الموجهة والحاسمة في كل نمو وكل تطور، (بيداغوجيا الكفايات، مصوغة تكوينية···)· ولحقيق أهداف وغايات التنمية المأمولة ،كان لزاما على المدرسة المغربية الجديدة تبني اختيارات تربوية وبيداغوجية حداثيةوحديثة، أثبتت فعاليتها في دول أخرى، وخاصة اعتماد مدخل الكفايات لتحديث وتفعيلالمنظومة التربوية والتكوينية المغربية، حيث وبعلاقة مع المشروع التنموي المستدام وآمال النهضة المجتمعية الشاملة، تم اعتماد تنمية وتطوير الكفايات التالية :
" كفايات مرتبطة بتنمية الذات:
تعمل على تنمية شخصية المتعلم كغاية في ذاته،وكفاعل إيجابي تنتظر منه المساهمة الفعالة في الارتقاء بمجتمعه في كلالمجالات·
" كفايات قابلة للاستثمار في التحول الاجتماعي: حيث تجعل نظام التربية والتكوين يستجيب لحاجيات التنمية المجتمعية بكل أبعادها الروحية والفكرية والمادية·
" كفايات قابلة للتصريف في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، والتيتجعل نظام التربية والتكوين يستجيب لحاجيات الإدماج في القطاعات المنتجة ولمتطلباتالتنمية الاقتصادية والاجتماعية ·
من خلال هذه النماذج المقترحة، من بعضالأدبيات التربوية الرسمية، يتبين نية السياسة التعليمية (إنما الأعمال بالأفعال) في جعل المدرسة كمؤسسة معرفية وتربوية، رافعة استراتيجية لتحقيق نهضة مجتمعية، وذلكعبر تنمية وتطوير الكفايات المعرفية والقيمية لدى المتعلم المغربي، الذي هو الفاعلالأساسي والمستقبلي في تحقيق رهان التنمية المأمولة·
وبما أن لا تنمية مجتمعية بدون أفراد أكفاء ومؤهلين معرفيا وقيميا ومؤسسيا ، فإنه وكاختيار استراتيجي، لابد من إعطاء الاهتمام والدعم الكافيين للمؤسسة المدرسية على كل المستويات (المادية والمالية والبشرية···) حيث أن المدرسة تلعب دورا حيويا في تقدم المجتمع ، وذلك عبر أدوارها المتميزة في التأهيل المعرفي والتربوي للأفراد، (كما سنرى لاحقا)، فلا تنمية مجتمعية بدون تنمية معرفية لشخصية هؤلاء الأفراد الذين يكونون المحرك الأساسيلأي مجتمع·

المدرسة والتنمية المعرفية لشخصية المتعلم
تشكل المقارنة بين الاطفالالمتمدرسين وغير المتمدرسين، أبسط وسيلة لتأكيد وإبراز آثار التمدرس على تنميةالكفاءات والسيرورات الذهنية عند الطفل / الفرد، وعلى تطور شخصيته وأشكال تفاعله معمحيطه الاجتماعي، وهذا ماقامت به مجموعة من البحوث، نذكر منها: أعمال فجوتشكي (19 ،وهو أول من ربط النمو المعرفي للطفل بالتمدرس عامة، وبالكتاية والقراءة خاصة،كأدوات اجتماعية وثقافية تطور فكر الطفل، حيث أكد على الدور الايجابي الذي تلعبهاللغة المكتوبة كنظام رمزي مجرد في تكوين السيرورات الذهنية العليا، كما نجد بأنلوريا (1976) قد قاد بعثة من علماء النفس في الثلاثينات الى آسيا الوسطى لدراسةآثار الاصلاحات الاجتماعية والثقافية، وبالضبط التمدرس، على الوظائف الفكريةللسكان، الذين لم تكن أنشطتهم تتجاوز حدود العمل الفلاحي التقليدي المحكوم بمظاهرالامية والعزلة عن باقي العالم·· حيث اكتشفت هذه الدراسة أهمية التأثير الإيجابيللتمدرس على فكر السكان، حيث ان المجموعة المتمدرسة تعاملت بطريقة مجردة معالاختبارات واستجابت الى العلاقات التصورية والمنطقية للأشياء· وحسب بروير وروجوف ،التمدرس في جل الحالات له تأثير إيجابي جدا على معارف الطفل، يكمن أساسا في تحويلهذه المعارف في طابعها العملي والواقعي المتضمن في السياق الى طابع نظري مجردومتحرر من السياق الواقعي·
ان الدراسات السالفة، وغيرها، تقر بأن المدرسة تلعبدورا مهما في الدفع بالطفل الى ولوج الفكر الصوري المجرد، وتبني وتسرع سيروراتهوعملياته الذهنية العليا، وبذلك تلعب (المدرسة) دورا حيويا في الرقي بشخصية الفردوتنمية ذكائه، مما يؤثر إيجابا على أشكال تفاعله الفعال والناجع مع محيطه الاجتماعيوالطبيعي المعقد، بالاضافة الى أن السيرورات الذهنية العليا لدى الفرد، هي القمينةبإنتاج وإبداع الخبرات النظرية والتكنولوجية والاقتصادية·· الجديدة، كما تؤكد ذلككل الدراسات المتمركزة حول الموارد البشرية في التنمية المستدامة·
وهذا ما جعلالدول المتقدمة او الطامحة للتقدم تركز بشكل كبير على الكفاءات المعرفية العليالمواطنيها، لربح رهانات التقدم والمنافسة الدولية الجديدة، حيث أصبح الاقتصادالجديد، هو "اقتصاد المادة الرمادية"، أي اقتصاد معرفي بالاساس، يعتمد على الكفاءاتالبشرية لتدبير وصناعة المعارف والمعلومات الابتكارية، التي توظف، بشكل مباشر اوغير مباشر، في النمو الاقتصادي والاجتماعي الشامل، إن هذه المعطيات والرهاناتالجديدة جعلت جل الباحثين والمهتمين يركزون على دراسة الموارد البشرية وسبلتنميتها، وخصوصا تنمية كفاءاتها المعرفية والمهارية، بحيث أصبح هناك تخصص جديد يهتمبالتربية المعرفية، لتنمية وتربية القدرات والكفاءات المعرفية / الذهنية لدى الفرد،فلا بأس ان نتعرف، ولو بشكل مقتضب، على ما يسمى بالتربية المعرفية، نظرا لأهميتهافي تحقيق التنمية المعرفية للفرد، ولنتائجها التطبيقية الايجابية، سواء في المدرسةاو المجتمع·
التربية المعرفية
يستعمل لفظ التربية المعرفية للإشارة بصفةعامة الى الانجازات والممارسات المعتمدة في هذا الميدان، رغم أنه عادة ما يتمالحديث عن التربية المعرفية كلما تعلق الامر بتسهيل النمو والاشتغال الذهني لدىالفرد الذي يشكو من نواقص معرفية خاصة، وعن العلاج المعرفي كلما تعلق الامربإمكانية تصحيح النواقص الناتجة عن العوامل التي عطلت ذلك النمو او الاشتغالالذهني· اما أهدافها، فتحدد في: تربية بنيات المعرفة وتطوير الوظائف الذهنية / الفكرية، ثم تعلم التعلم وتعلم كيفية التفكير، المراهنة على بلوغ الهدف الأولبكيفية مباشرة، دون المرور باكتساب المعارف او الاجراءات الخاصة بتخصص معين ، السعيالى تشكيل الذكاء وتنميته، مع التسليم بإمكانية تربيته· وتوظيفه في تحقيق مستوياتجيدة من التعلم والاكتساب·
هكذا، نرى، حسب التربية المعرفية، بأن الكفاءاتالمعرفية والذكاء بصفة عامة، هما معطيان قابلان للتربية والتنمية والاستثمار، وتبقىالمدرسة ، هي المؤسسة المؤهلة أكثر من غيرها، للقيام بالدور التربوي المعرفيللأفراد، لتنمية كفاءاتهم وسيروراتهم المعرفية / الذهنية لاستثمارها في المشاريعالتنموية الشاملة·
وفي الاخير، نود ان نختم هذه المقاربة، بتقديم المعارفالضرورية لتربية المستقبل كما يقترحها إدغارموران، نظرا لأهمية هذه المعارف فيالتربية على القيم الاخلاقية والابستيمية، هذه القيم التي تعتبر دماء وشرايين أيتنمية إنسانية في كل أبعادها الوطنية والكونية، حيث على المدرسة الحداثية العمل علىإدماجها واستثمارها باستمرار داخل برامجها ومناهجها التربويةوالتكوينية·
المعارف الضرورية لتربية المستقبل
يحدد إدغار موران هذه المعارففي سبعة مبادىء أساسية:
" 1 - معرفة الخطأ والوهم، حيث أنه من اللافت للنظر - حسب إدغارموران - أن نلاحظ بأن التربية التي تهدف الى توصيل المعرفة تظل جاهلةبماهية المعرفة الإنسانية وبآلياتها وحدودها وصعوباتها ونزوعها الطبيعي الى الخطأوالوهم، كما أنها لاتبذل أي مجهود لتعرف بماهية المعرفة:
" 2 - مبادىء المعرفةالملائمة: هناك قضية حاسمة يتم تجاهلها على الدوام، وتتعلق بضرورة بناء معرفة قادرةعلى تمثل المشاكل الشمولية والجوهرية، في أفق دمج المعارف الجزئية والمحليةداخلها·· حيث من الضروري تطوير القدرة الطبيعية للفكر البشري على موضعة معارفه داخلإطار وسياق محددين· من الضروري تدريس المناهج التي تسمح بتمثل العلاقات والتفاعلاتبين الاجزاء والكل داخل عالم مركب·
" 3- تعلم الشرط الإنساني: الإنسان هو فيالوقت ذاته كائن فيزيائي وبيولوجي ونفسي وثقافي واجتماعي وتاريخي، وهذه الوحدةالمركبة للطبيعة الإنسانية هي ما يعبث بها التعليم في مختلف المواد الدراسية· وبفعلهذا التشتت، أصبح من المستحيل تعلم اليوم ما يعنيه الكائن الإنساني·· من الملح لكلفرد، أينما كان ، ان يعي الطابع المركب لهويته ولهويته المشتركة مع الآخرين· لذلكعلى التعلم ان يجعل من الشرط الإنساني موضوعه الجوهري··
" 4 - تعليم الهويةالارضية· يعتبر المصير الكوكبي البشري الغائب الاكبر عن التعليم، يجب ان تصبحالمعرفة بمستجدات العصر الكوكبي (العولمة)، والاعتراف بالهوية الارضية أحد المواضيعالجوهرية للتعليم··
" 5 - مواجهة اللايقينيات: يجب تعليم مبادىء الاستراتيجيةالتي تمكن من مواجهة المحتمل واللامتوقع واللايقيني، حسب المعلومات المحصل عليهاأثناء القيام بفعل ما، والعمل على تغيير مسار تطورها· يجب تعلم الإبحار في محيطاللايقينيات عبر أرخبيلات من اليقين ···
" 6 - تعليم الفهم: يشكل الفهم فيالوقت ذاته وسيلة التواصل الإنساني وغايته·· إن كوكبنا يتطلب أنواعا من الفهمالمتبادل في جميع المستويات وعلى جميع الاصعدة·· لقد أصبح التفاهم بين البشر أمراحيويا لكي تتحرر العلاقات الإنسانية من الوضعية الوحشية التي يتسبب فيهااللاتفاهم··
" 7 - أخلاق الجنس البشري: يجب ترسيخ الاخلاق في العقول، عبر تعليمالوعي بكون الإنسان هو في الوقت ذاته فرد وجزء من مجتمع وجزء من نوع· إن كل واحدمنا يحمل داخله هذا الواقع الثلاثي الابعاد·· من هنا تتضح الغايتان الأخلاقيتانالسياسيتان الكبيرتان للألفية الجديدة، أولاهما بناء علاقة المراقبة المتبادلة بينالمجتمع والافراد عن طريق الديمقراطية وتحقيق البشرية كجماعة كوكبية··
إن هذهالمبادىء المعرفية / التربوية السالفة، وكما قلنا، هي مدخل أساسي لبناء وتفعيلالمدرسة الحداثية، لجعل المعرفة العلمية والإنسية مساهما استراتيجيا في تحقيقالتنمية البشرية الشاملة، في بعديها المحلي والعالمي، حيث لا تنمية حقيقية بدونمعارف وقيم علمية وإنسية ومواطنة، فالتنمية الشاملة هي مشروع مجتمعي إنساني مركب،يتداخل فيه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والنفسي والمعرفي··· والمحليوالعالمي، وتبقى المدرسة، دائما، هي تلك المؤسسة الاجتماعية المؤهلة لتحقيق التنميةالشاملة عبر إشاعة وإنتاج التنمية المعرفية، التي هي في خدمة تنمية شخصية الفردوالمؤسسات والقطاعات المجتمعية على السواء، بطريقة جدليةوتفاعلية·
* محمد الصدوقي/المغرب


ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ: موسوعة علوم التربية 2016 © سياسة الخصوصية تصميم : كن مدون