المحاور الثلاثة لتحويل المدرسة إلى سلعة 1
بقلم نيكو
هيرت
تقديم
تعطي دراسة
نيكو هيرت هذه نظرة شاملة على الانقلاب الذي هز التعليم بالبلدان الإمبريالية بفعل
تغيرات متطلبات تراكم الرأسمال هناك.
وقد يبدو
للوهلة الأولى ان مغربنا المتخلف ، بنسيجه الاقتصادي الضعيف، غير معني بالسيرورات
التي تعريها دراسة هيرت . لكن يكفي استحضار الطابع التابع لاقتصاد المغرب ،
والذي تعززه اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوربي ، لفهم سبب كون ما سمي «الميثاق
الوطني للتربية والتكوين» تطبيقا حرفيا
لمبادئ الوصفة النيوليبرالية في التعليم .
ان
بصمات واضعي استراتيجية الرأسمال الأوربي ، ومعهم مؤسسات الرأسمال العالمي
(بنك وصندوق) واضحة في "الميثاق"
وليست توقيعات المشاركين في اللجنة التي وضعت "الميثاق" غير مباركة للعدوان على أطفال المغرب وشبابه .
وطبعا ليست
دراسة هيرت غير خيط توجيه فكري ، لان الحالة الملموسة لورشة هدم التعليم العمومي بالمغرب ما زالت في
أمس الحاجة الى متطوعين لدراستها من اجل
إيقاظ الأذهان وحشد القوى للدفاع عن الحق في التعليم العمومي المجاني والجيد .
أملنا أن
تجد انوية اطاك المغرب ما يكفي من القوى، بعد استقالة عدد غفير من المحسوبين على
"الصف التقدمي"، لاقتحام ملف الحق في التعليم بالبحث والدراسة بما هما
شرط لا بد منه لصنع أدوات تثقيف شعبي حقيقية .
لهذه
الغاية ألحقنا بهذه الدراسة قائمة بمراجع
حول المسألة التعليمية بالمغرب .
فريق
الترجمة بلجنة الإعلام والدراسات والتكوين – اطاك اكادير
تعرضت
أنظمة التعليم بالبلدان الصناعية، منذ أواخر سنوات الثمانينات، لإنتقادات وإصلاحات
مستمرة تمثلت بعمليات نزع المركزة décentralisations ونزع التقنين déréglementations
وتنامي استقلال مؤسسات التدريس ونزع الضبط dérégulation عن البرامج وتخفيفها
واعتماد « مقاربة عبر الكفايات » وخفض ساعات الدروس الخاصة بالتلاميذ واقامة
شراكات مع عالم المقاولة وإدخال مكثف لتقنيات الإعلام والاتصال TIC وحفز التعليم الخاص
والمؤدى عنه. ولا يتعلق الأمر هنا بنزوات شخصية لدى بعض الوزراء أو محض صدفة.
فتماثل سياسات التربية ببلدان العالم الرأسمالي المعولم برمته لا يدع مجالا للشك بوجود محددات مشتركة قوية تحفز تلك
السياسات.
مؤدى
الأطروحة المدافع عنها هنا أن تلك التحولات ناتجة عن مطابقة عميقة للمدرسة مع
متطلبات الاقتصاد الرأسمالي الجديدة. وهكذا فما يجري تحقيقه هو الانتقال من حقبة «
إضفاء الطابع الجماهيري » massification على التعليم إلى حقبة « تحويله إلى سلعة ». بل
يجب قول تحويله إلى سلعة تحويلا ثلاثيا . وفعلا بات الجهاز المدرسي- اضخم قطاع
عمومي على الاطلاق- مدعوا لخدمة المنافسة الاقتصادية بشكل أكثر وافضل، وذلك عبر
ثلاثة طرق : أولا بتكوين العامل على نحو ملائم اكثر ، ثانيا بتعليم المستهلك
وحفزه، وأخيرا بانفتاحه هو نفسه لغزو الأسواق.
تجري
مطابقة المدرسة مع الاقتصاد هذه سواء على مستوى مضامين الدروس أو على مستوى المناهج ( الممارسات البيداغوجية
والإدارية ) والبنيات. وهكذا « يقول خبراء اللجنة الأوربية : إن التكيف مع سمات
مقاولة 2000 هو الكفيل يجعل أنظمة التعليم والتكوين تساهم في التنافسية الأوربية
»(1).
يمثل تحويل
التعليم إلى سلعة مرحلة تاريخية جديدة ضمن حركة تمتد أكثر من قرن قوامها انزلاق
المدرسة التدريجي من الدائرة الإيديولوجية-السياسية نحو الدائرة الاقتصادية،
أو بعبارة ماركسية ، من « البنية الفوقية
» نحو « البنية التحتية ».
تطورت
المدرسة الابتدائية الخاصة بالقرن التاسع عشر أولا كمكان للتنشئة الاجتماعية socialisation. إذ أن تجزيء العمل
اليدوي ونزع تأهيله الناتجين عن التصنيع، قد فككا شيئا فشيئا نظام المعلم-المتعلم
الموروث عن مرحلة القرون الوسطى. والحال أن وظيفة هذا الأخير لم تكن مهنية حصرا،
فالفتى يتعلم ما هو أكثر من حرفة ، اذ كان
يتلقى التربية والانضباط ويتعلم المعارف الضرورية للحياة اليومية والحياة
الجماعية. وفي القرى كانت التنشئة الاجتماعية للطفل تجري في الأسرة. وهنا أيضا قدم
التمدن وانفجار نموذج الأسر التقليدية ليحطما قرونا من التقاليد. حين دافع ملك
بلجيكا ليوبولد الأول عن قضية التعليم
العمومي سنة 1841، شدد قبل كل شيء على فكرة أن الأمر يتعلق « بمسألة نظام اجتماعي
» (2).
و مع صعود
الحركة العمالية المنظمة وتهديداتها للنظام القائم، أسندت الطبقات الحاكمة تدريجيا
مهمة ثانية للمدرسة الابتدائية الخاصة بالشعب ، مهمة ضمان حد أدنى من تماسك
المجتمع سياسيا. وفي فرنسا أسس جول فيري Jules Ferry المدرسة الجمهورية
غداة كومونة باريس ووضح بقوله : « نسند للدولة الدور الوحيد الذي يمكن أن تقوم به
في مجال التعليم والتربية. وهي تمارسه لأجل الحفاظ على نوع من أخلاق الدولة
وعقائدها اللازمة لبقائها ».(3) وكان للنزعة الوطنية مقام رفيع بين تلك العقائد،
ويشهد ركام جثث الحرب العالمية أمام التاريخ على الفعالية الدموية التي كانت
للتعليم العمومي بصفته جهازا إيديولوجيا للدولة.
وبوجه
مدرسة أبناء الشعب الابتدائية تلك، كان التعليم الثانوي في القرن التاسع عشر يقوم
بدور مواز إزاء أطفال الطبقات المسيطرة. إذ كان عليه أن يمدهم بما يؤهلهم من معارف
لتقلد المناصب القيادية بالمجتمع البورجوازي. وكان يضفي الشرعية على السلطة ويسهم
في صنع أسلحتها.
لكن مع
مطلع القرن العشرين ، أدى تقدم التكنولوجيا الصناعية وتنامي الإدارات العمومية
وفرص العمل التجارية عودة طلب على يد عاملة أرفع تأهيلا. وإذا كانت تنشئة اجتماعية
أساسية كافية لأغلبية العمال، فانه بعضهم
يلزمه الحصول على تأهيل مهني ارفع. وما كان الرجوع إلى التعلم التقليدي
ليكفي. ومذ ذاك انفتح نظام التعليم على ُشعب « حديثة » تقنية أو
مهنية. وبدأ إسناد وظيفة اقتصادية للتعليم. وغدت كذلك المدرسة الابتدائية، بحكم
الواقع، آلة انتقاء. اذ كانت نتائج نهاية التعليم الابتدائي تحدد، بشكل واسع، من
سيحالفه الحظ من أبناء الشعب لمتابعة التعليم الثانوي. وهكذا تطور خطاب حول سلطة
الاستحقاق يقدم التعليم كوسيلة ارتقاء اجتماعي لمن هم « أكثر ذكاء» أو « أكثر
استحقاقا ».
فترة
الثلاثين سنة المجيدة
فرض الدور
الاقتصادي للمدرسة نفسه في الصدارة خلال الحقبة التالية للحرب العالمية الثانية،
في سياق نمو اقتصادي قوي ومستديم، واختراعات تكنولوجية عظيمة وطويلة الأمد - كهربة
سكك الحديد، بنيات ارتكازية بالموانئ والمطارات، طرق سيارة ، طاقة نووية، تلفون،
بترو كيمياء. و زالت فرص عمل كثيرة في قطاعات كانت دوما مستهلكا ضخما للعمل اليدوي
ضعيف التأهيل. ففي بلجيكا على سبيل المثال، انتفت 52% من فرص العمل المأجور
بالزراعة من عام 1953 إلى1972. وبلغت
النسبة المنتفية بقطاع مناجم الفحم الحجري 78% ، وبمقالع الحجارة 39%. غير أن تلك الخسارات تم تعويضها بشكل واسع
في قطاعات أخرى، أولها الصناعة : صناعة الحديد ( + 10%) والكيمياء ( + 36% )
والإلكترونيك والإليكتروتيكنيك ( + 99% ) والطباعة ( + 39% ). وثانيا في قطاع
الخدمات :البنوك ( + 131% )، كاراجات ( + 130% ) والإدارات العمومية ( +39% ). اذن
لم تكن المرحلة تتطلب نمو اليد العاملة المأجورة وحسب، بل أيضا وبوجه خاص ارتفاعا
عاما لمستوى تعلم العمال والمستهلكين. وقد تحقق ذلك الارتفاع عبر إضفاء الطابع الجماهيري massification بخطى فائقة السرعة على التعليم الثانوي، وبدرجة
أقل على التعليم العالي.
ما كان
لازما بوجه عام سن قوانين لأجل تمديد مدة التمدرس. لأن إدراك الآباء والشباب لتغير
تركيب فرص العمل ، و أملهم في الارتقاء
الاجتماعي ، عنصران حفزا الطلب على التعليم الثانوي والعالي. وطبعا خابت تلك
الآمال ، وبات العامل المؤهل يتبوأ ، في التراتب الاجتماعي، المكانة التي كانت
للعامل غير المؤهل قبل ثلاثين سنة. غير أن تلك الآمال ساهمت مع ذلك بشكل كبير في حفز جيل من أبناء الشعب للتعلم في المدرسة.
ولنضف أن
كل ذلك تحقق على حساب نفقات الدولة التي ما زالت آنذاك تمتلك الوسائل اللازمة: إذ
أتاح النمو المستديم والاستقرار الاقتصادي تحقيق نمو مواز في المداخيل الضريبية
والاستثمارات العمومية طويلة الأمد. وهكذا انتقلت النفقات العمومية، ببلدان أوربا
الغربية، من زهاء 3% من النتاج الداخلي الإجمالي خلال سنوات الخمسينات، إلى نحو
6%، و حتى 7% أحيانا كما في بلجيكا، في
أواخر سنوات السبعينات. وتطور التعليم العمومي في كل البلدان. و في البلدان ذات
تقاليد تعليم طائفي قوية، خضع الأخير لتحكم متنام من الدولة، مقابل تمويل ملائم
أكثر.
وكانت
وتيرة إضفاء الطابع الجماهيري على التعليم
مذهلة. ففي فرنسا انتقلت نسبة الحاصلين على شهادة الباكلوريا خلال جيل من 4% سنة 1946 إلى أكثر من 60% في أواخر سنوات
الثمانينات(4).وفي بلجيكا، تضاعفت نسبة المتعلمين من شباب فئة 16 - 17 سنة بين
عامي 1956 و 1978 ، حيث انتقلت من 42% إلى 81%.(5)
في تلك
الحقبة بكاملها، كان خطاب أرباب العمل حول التعليم خطابا كميا بالدرجة الأولى. كان
من اللازم أن يتابع عدد اكبر من الشباب الدراسات الثانوية والعليا. وكان لازما
أيضا تكييف كمي افضل لمختلف الُشعب مع حاجات سوق العمل. مذ ذاك ، ظلت الأوجه النوعية لمطابقة التعليم مع
الاقتصاد - محتوى ومناهج وبنيات - مسائل أقل أهمية. ولم تتغير جوهريا طبيعة المدرسة الثانوية التي جرى إضفاء طابع
جماهيري عليها في الفترة الممتدة من عام 1950 إلى 1980. فرغم بعض الإصلاحات
الطفيفة ظلت موادها الدراسية مستنسخة عن مواد العقود السابقة، بالأقل في ُشعب
التعليم العام.
لكن إضفاء الطابع الجماهيري حفز أيضا نظام التعليم
بصفته آلة لإعادة إنتاج التراتب الاجتماعي. فعندما أُتيح التعليم الثانوي
للجميع، لم يعد الانتقاء الاجتماعي يجري
بشكل أساسي « تلقائيا » في متم التعليم الابتدائي، بل إبان مرحلة التعليم الثانوي
نفسها. قديما ، ما خلا الاستثناء النادر، كانت « دراسة الآداب القديمة » التي تمهد لولوج التعليم العالي حكرا على أبناء
النخب. وكان أبناء الطبقات المتوسطة
يتابعون دراسات ثانوية عامة « حديثة ». أما أبناء الشعب فيكفون عن الدراسة
بعد التخرج من المدرسة الابتدائية، أو يتابعون ، نادرا، بضع سنوات من الدراسة
الثانوية التقنية أو المهنية. وجاء إضفاء الطابع الجماهيري على المدرسة في ما بين
عامي 1950 و 1980 ليغير ذلك التوازن « الطبيعي » الجميل. إذ بدأ الأطفال يلتحقون
بشكل كثيف بالمدارس الثانوية، ويجرب كثيرون حظهم في التعليم العام، لأن الطلب على
اليد العاملة المؤهلة، في قطاع الخدمات والإدارة مثلا ، يغري بآفاق الترقي
الاجتماعي. وبحكم الواقع، بات الفرز يجري خلال سنوات الدراسة الثانوية. وعلى نحو
غير مباشر غدا إضفاء الطابع الجماهيري على المدرسة، إضفاء للجماهيرية على الفشل
الدراسي والتكرار أيضا، بما هما شكل جديد
للانتقاء التراتبي. وفضلا عن ذلك،
تبين أن ذلك الانتقاء يشكل دوما عبر«
معجزة بيداغوجية» مثيرة انتقاء اجتماعيا. اصبح الجميع يلتحق بالمدرسة الثانوية، في
شعب مشتركة، ولكن أغلبية الأطفال الذين يخرجون «ظافرين»، و يجتازون الشعب الأكثر «
نبلا » و يتابعون الدراسات العليا ذات القيمة
والمانحة للقيمة، هم كما في السابق أبناء الطبقات ذات الحظوة .هكذا غدت
المدرسة، آلة «لإعادة إنتاج» التفاوتات
الطبقية حسب تعبير بيار بورديو.
ونؤكد وجوب
الكلام عن إضفاء الطابع الجماهيري على المدرسة وليس عن دمقرطة التعليم، رغم أن
الخطاب الرسمي يروق له أن يخلط المفهومين. وإذا كان مستوى ولوج التعليم قد ارتفع
بالفعل بالنسبة لأبناء كافة الفئات الاجتماعية ، فإن اللامساواة النسبية لم تتقلص
مع ذلك. وهكذا بين المعهد الوطني للإحصاءات INSEE أن الحركية الاجتماعية بفرنسا
قلما تغيرت: فاحتمال حصول ابن موظف إطار على شهادة أعلى من شهادة ابن عامل، ظل
دائما ،اليوم كما قبل 30 سنة ، بنسبة 80%
تقريبا (6). كان الطلبة المنحدرون من الطبقات الشعبية يمثلون ، في ما بين عام 1951
و 1955 ، نسبة 18% من طلبة المدرسة الوطنية للإدارة و 21% من طلبة معهد البوليتكنيك. لكن تلك النسب
انخفضت ، فيما بين 1989 و 1993 على التوالي إلى 6 % و8%. وكمثال آخر،لاحظ
الباحثون بمركز Centrum voor Sociaal Beleid
، أن ثمة داخل المجموعة الفلامانية ببلجيكا « فارقا ثابتا في المشاركة بالتعليم
العالي بين أبناء الأسر بالغة التمدرس و أبناء الأسر ضعيفة التمدرس ».(7)
ليست هناك تعليقات: