كيف يغير التعليم الصحيح العالم؟! – تقرير
أترى تلك الصورة بالأعلى؟ إنها صورة شهيرة لمعلم ياباني يعلم أطفالاً بعد شهر واحد من سقوط القنبلة على هيروشيما، في مكان ليس ببعيد أبداً عن مكان سقوط القنبلة. ذلك المعلم الواقف قد يكون قد فقد كل عائلته في لمحة بصر، هؤﻻء الأطفال ربما كل واحد منهم من قرية أوحي مختلف عن زميله، فقد أتى الإنفجار على كل أخضر ويابس!.
انتباه اليابان من غفلتها
ليت شعري كيف تحمل هؤﻻء تلك الظروف القاسية التي أودت بكل حياتهم، إن لم أكن أبالغ في وصفي؟ ما الذي حملهم على القيام من تحت الرماد لينهضوا مرة أخرى عمالقة يجبرون العالم على الإعتراف بهم؟. إنك إن أمعنت التفكر في أمرهم ستدرك ﻻ محالة أن لهم هماً وحدوا قلوبهم وجوارحهم عليه.
إنهم عرفوا أن الحروب طاحونة كل من يدخل غمارها خاسرٌ لا محالة، وأمة كاليابان لها تاريخ طويل جداً فى الحروب مع من جاورها من الأمم، بل قل إن شئت في الحروب الداخلية بين العشائر اليابانية المختلفة، وقد بلغوا فى استرخاص الدماء مبلغاً عظيماً..
وما فنونهم القتالية إلا نتيجة لهذه الحروب الطاحنة بين القبائل وللبيئة غير الآمنه التى عاشوا فيها، لدرجة أصبح السيف فيها جزءاً من الزى التقليدي!. شئ أشبه بحروب القبائل العربية فى الجاهلية التى كانت تقوم لأتفه الأسباب.
الشاهد أن اليابانيين قد طرحوا كل شئ وراءهم بعد الحرب، وفرغوا أنفسهم بالكامل للبناء والتقدم، عرفوا من خبرات كل هذه القرون أن الحرب والدماء والصراع على السلطة التى ظنوا أنها ستجلب لهم اعتراف العالم بهم ما هى إلا طاحونة تستغرق أعمارهم وأموالهم، فوجهوا طاقاتهم إلى العلم والبناء، فمن يسلك هذين الطريقين يجعل العالم يعترف به طوعاً أو كرهاً.
وأنت ترى من تلك الصورة أن أول ما وضعوه نصب أعينهم هو التعليم، ثم بعدها حدثني عن صناعة وزراعة وتقدم!. ونحن نرى نتائج أساليبهم التعليمية واضحة جلية في منتجاتهم، بل ربما في قصص أصحاب تلك المنتجات، فكلمة والدك الشهيرة عن هذا المنتج أو ذاك أنه “ياباني”!، تكفي ليستحضر عقلك كل معاني الإتقان والكمال التي قد يفعلها المرء في منتج شركته!.
و روسيا أيضاً، كيف قدموا العلم لطلابهم؟
ودعني أقفز بك على حين غفلة إلى بلادنا العربية، بالله ماذا وجدنا نحن العرب من حركات إصلاحية للتعليم؟ بالكاد كنت ترى شعلة هنا، وومضة هناك. لكن لم يكن هناك يوما، على حد علمى، منهج تسير عليه أجيال لتنتج وتبنى دولة حديثة.
هل وجدنا نحن من يضع مناهج للإرتقاء بمستوى الطالب إلى حد يجعله ينافس أقرانه من العرب أومن غيرهم؟.. هل وجدنا من يغير من طرق التدريس التقليدية ليحبب الطلاب فى الدراسة؟!.
لقد قرأت قبل عدة أعوام كتاب الفيزياء المسلية للعالم الروسي ياكوف بيريلمان، ولشد ما أدهشنى بعدما رأيت العرض المذهل المبسط لنظريات فيزيائية معقدة بنيت عليها الكثير من تطبيقات حياتنا اليومية، والتعرض لمسلَّمات عشنا عليها دهراً بل وأساطير أيضاً بشرح فيزيائى محض يكشف غموضها ويجلى حقيقتها!، لشد ما كانت دهشتى أن أجد أن الكتاب فى الأساس مقدم لطلاب الثانوية الروسية!.
لا غرو إذاً أن يكبر هؤلاء الفتية الذين تربوا على مثل هذه الكتب ليصنعوا الطائرات وليسبروا أغوار الفضاء السحيق. ما أقصده هو أنهم وسعوا مدارك الطلاب، فلم تعد الكتب المدرسية هى الوسيلة الوحيدة لتحصيل العلم، فشجعوا الطلاب على القراءة الهادفة، أي التي منها نفع يرتجى، ثم له أن يقرأ فى وقت فراغه ما شاء من فنون الأدب.
أما عندنا … !
أما عندنا، فإن الطالب الذى يدرس بالسنة الأخيرة بالمرحلة الثانوية والذى اختار مواداً يدرسها تؤهله لكلية الهندسة مثلاً، فإن عليه أن يدرس أدباً وبلاغة وتربية قومية و…!.
بل إنه لابد له من اختيار مادة أدبية ليدرسها فوق تلك المواد بجانب الرياضيات والفيزياء، وقل مثل ذلك على الذى يبغى دراسة الصيدلة أوالطب أوالعلوم!.
إن فى هذا تشتيت لذهنه ومضيعة لوقته، لأنه قد حصل غالب هذه المواد فى سنين سابقة، ولأنه من ناحية أخرى لن يدرسها مرة أخرى فى جامعته التى سيذهب إليها!. إننى أرى أنه إن كان لابد أن يدرسها لسبب أولآخر، فيجب تحديد معيار قبوله بالكلية التى يبغى الدراسة فيها بحاصل درجاته فى المواد المتعلقة بها..
ولا ينظر لدرجاته فى المواد الأخرى، فمثلاً لطالب الهندسة ينظر لدرجاته فى الرياضيات والفيزياء دون سواهما، ويضاف إليهما التربية الدينية و اللغة الإنجليزية فى بلادنا (العربية!)، إلى أن يمن الله علينا بمن يبدأ حركة ترجمة للعلوم المختلفة إلى العربية!.
المناهج العبثية
بل إن هناك ما هو أدهى وأمرّ من ذلك، فحتى فى مواد التخصص، فإن المناهج لا تعد الإعداد المطلوب للإبداع!، فمثلاً فى منهاج الفيزياء المقرر على السنة النهائية بالثانوية العامة المصرية، تجد أن المؤلف فى الباب الأخير من الكتاب (الفيزياء الحديثة) يخبرك أنه استقر فهمنا حتى الآن للضوء على أنه موجات تنعكس وتنكسر وتحيد و..،
استغرقنا أحد عشر فصلاً من الكتاب فى دراسة الفيزياء الكلاسيكية التى تقول هذا الكلام. بينما سندرس فى القليل الباقى كيف أن منحنى بلانك أثبت فشل نفس تلك الفيزياء فى تفسير الضوء!؟.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالمؤلف يخبرك بأن الفيزياء الحديثة هى التى تتعامل مع الكثير من الظواهر الكونية والحياتية التى نراها يومياً، والتى بالمناسبة لا تستطيع الفيزياء الكلاسيكية تفسيرها أو فسرتها بشكل خاطئ!.
حسناً، سندرس تلك الحديثة، كلا!، لكننا سنعطيكم بعض التعريفات والمبادئ التى ستكتبونها فى الإمتحان!، ولكن لا تقلق، لن تُحرم الفضل!، ستدرس نبذة عن بعض الإختراعات الحديثة، كأنبوب إشعاع الكاثود مثلاً -شاشة التلفاز العادية- ضمن هذه الفيزياء الحديثة!.
ألم يسمعوا عن شاشات البلازما؟، أم كانوا ينتظرون حتى تصبح هى الأخرى من التراث الذى يُحكى؟!. ما لهم كيف يحكمون؟، إن التعلل بأن هذه النبذة هى لتأهيله للدراسة الجامعية غير مقبول، لأن الإصدارات الحديثة من نفس الإبتكار لا تعتمد نفس المبدأ.
أيضاً كان من الممكن جعل دراسة المقرر بصورة أكثر (تفاعلية)، ربما كان أفضل لو تدرب الطلاب على هذه الأجهزة، فهى من صميم مناهجهم، فهذا أفضل فى إيصال المقصود إليهم من الشرح النظرى المجرد. ﻻ سامح الله هؤﻻء القوم على أوقاتنا التى ضاعت.
ومضات في ذلك الظلام
لقد اعتاد أبى أن يستعمل عدة أساليب فى تقديم المادة العلمية للطالب، فهو-ولله الحمد- ليس من هواة الشرح المجرد أوالتلقين، ولا الرياضيات، مادته التى يشرحها!. لقد كان يدفع الطالب إلى شرح الدرس لنفسه حتى دون أن يدري!. أخبرني مرة أحد الذين تتلمذوا على يديه أنه فى إحدى دروس الميكانيكا كتب المعادلة التى كان من المفروض عليه أن يشرحها ثم جلس!.
تعجبت كيف سيفهم الطالب الدرس دون أن يشرح هو!، فبين لي بأنه أخبرهم أن يعتبروها معادلة من طرفين، فلابد إذاً أن الطرفين متساويان، فإذا حلل الطالب أحد الأطراف وحاول أن يخرج منه بصورة تساوى الطرف الآخر فقد قطع شوطاً كبيراً لفهم الدرس، وسيذكره لأنه قطعه بنفسه.
إن هذا الأسلوب أكثر تفاعلية، بل وفاعلية أيضاً وأبعد عن أسلوب التلقين الذى لا يليق بالرياضيات. لقد كنت أزوره أحياناً فى صغرى بغرفته بالمدرسة فأرى عنده مجسمات للأشكال الأساسية على شكل أسلاك رفيعة..
لم أسأله عنها وقتها ولكني أظن أنه كان يستخدمها فى شرح الهندسة الفراغية، كى يستوعب الطالب أن هناك بعداً ثالثاً فى الرسم، فما كان يراه خطاً يقسم قاعدة مثلث، أصبح يعرف أنه من الممكن أن يكون ضلعاً لهرم!، لكنه يرى قاعدته كخط مستقيم لأنها موازية لمستوى النظر.
ومرة أخرى مع الرياضيات أيضاً، ولكن مع أستاذٍ على يوتيوب أراد أن يقدم شرحاً للأعداد التخيلية لطلابه بطريقة مبسطة وفى نفس الوقت ليست مملة، فقام بصنع توأم وهمي لنفسه عن طريق تسجيل مقطع صغير لنفسه وهويشرح الأعداد التخيلية وكأنه يخاطب المعلم الأصلى فى نفس الوقت، من خلال ما يشبه مسرحية طريفة في بضع دقائق.
وفى واقع الأمر فإنه، أى المعلم التخيلى لم يشرح الدرس ولكن الطالب فهم مبدأ الأعداد التخيلية بطريقة لن تجعله لا ينساها بعد امتحان آخر العام!.
فهو لم يقل للطلاب افتحوا الكتاب على الصفحة الفلانية لأنها موضوعنا اليوم، وأخرجوا الكراسات واكتبوا فى رأس الصفحة…، وكثير من الكلام الرتيب الممل الذى يبعث على النعاس، لذلك كانت توضع الحصص المخصصة للرياضيات فى أول اليوم الدراسى ليس لتنشيط أذهان الطلاب، بل لكى يدركوا أذهان الطلاب قبل أن تدخل فى سبات لباقى اليوم!.
الفرق فى النتيجة بين الطالب الذى يخرج من تحت هكذا معلم وبين المعلم العربي أن الأول أصبحت عنده قواعد محفورة فى ذهنه يقوم (بتطبيقها) فى المشاكل أو المسائل التى يتعرض لها فى الإمتحان، أما الثاني فإنه أصبح لديه كمّ من البيانات يقوم (بتفريغها) فى ورقة الإجابة، ثم يخرج من غرفة الإمتحان وكأنه يقوم بإعادة تشغيل لدماغه فتمحى جميع المعلومات التى حصلها فى هذا العام لأنها كانت مخزنة على الذاكرة العشوائية التى تمحى محتوياتها بإعادة التشغيل!.
أشركني، فإن لي عقلاً!
مثال آخر عشته بنفسي أسوقه على الطرق المثمرة للتعليم. أذكر جيداً أننى فى المرحلة الإعدادية حظيت بأفضل حصة لدراسة العلوم على الإطلاق!، حيث أخرج لنا المعلم تلسكوباً كبيراً لا يزال فى علبته. ظننا أنه فى أفضل الأحوال سيركبه لنا وننظر إليه فقط لكى، على الأقل، نعرف أن ما ندرسه هو واقع وليس محض خيال مؤلفين!.
لكن ما حدث بعد ذلك كان ممتعاً بحق!، فقد طلب المعلم من اثنين أن يقوما بإخراج الجهاز من العلبة وتركيبه قطعة بعد أخرى، وهويرقبهما بدون أن يشعرهما بذلك، ولا يفتأ يطمئنهما أن يركباه كما يحلو لهما..
وألا ينشغلا بسلامة الجهاز، ولا عليهما إن كُسرت أجزاؤه، ولشد ما كانت فرحتهما لأنهما حظيا بهذه الفرصة من بين زملائهم. ويشرعان فى تركيبه وهما يشعران بالزهو، ويخطئ أحدهما فى وضع قطعة بالشكل الصحيح، فيتدخل المعلم بنصح خفيف لتعديل الخلل، ثم ينظر الطالبان إلى ما أنجزا وأجزم أن تلك التجربة قد حفرت فى أذهانهما إلى الآن!. أقول ذلك بكل ثقة لأنى كنت أحد هذين الطالبين!!.
إن ذلك المعلم قد خاطر بسلامة الجهاز المؤتمن عليه، وبمستقبل عمله فى هذه المدرسة إذ كان جديداً بها، فى سبيل أن يقدم علماً بطريقة ليست مختلفة وحسب!، بل ومثمرة أيضاً، على الأقل قد جعل الطالب يحب العلم وأشعره بأن حركات أنامله الصغيرة سوف تحدث فارقاً، وهوما نفتقر إليه فى البلاد العربية، فالمشكلة لا تنتهى عند تغيير المنهج وواضعه، بل إننا نحتاج أن نجد وسيلة نحث بها الطلاب على طلب العلم.
إن هذه الأمثلة التي أوردتها هي نماذج لتلك الومضات التى قلت إنها تظهر فى طريق إصلاح مسار التعليم، وبالتالى إخراج بناة للأمم ، ولكنها رغم أنها موجودة، فهي لا تعدو كونها حركات فردية بالكاد تجد تأثيرها فيمن يعلمونهم وما أقلهم، فالغالب من الطلاب فى الوطن العربى لا يريدون علماً بقدر ما يريدون حشواً لإمتحان آخر العام. أعتقد أنه لهذا السبب فضل أبى العمل الإداري عن التدريس!.
بعد النظر وعلو الهمة
إن المدرس اليابانى يقول للطالب المتمرد على الدراسة إن فشلك هو فشل اليابان، ونجاحك هو نجاح اليابان. إنه يشعره بقيمته وتأثيره فى أمته، ولسان حاله يقول له أنت أمة وحدك!. أما بالنسبة لنفس الطالب عندنا فإن المعلم الموقر، والذى هوالغالب الأعم.
يقول له بلسان مقاله وحاله: سواء عليك نجحت أم رسبت فإننى سأقبض راتبى آخر الشهر!!، وإنك لن تغير العالم، أوبصيغة دارجة جداً “إنك لن تخترع الذَرَّة!”. هذا إن لم ير نتيجة من الطالب بعد أن يخلص لله فى شرح مادته أصلاً ، ولم يتعمد تعسير المادة العلمية على الطالب لكى يدفعه دفعاً للدروس الخاصة، إن هذا بالكاد جليس أطفال وليس بمعلم!.
الخلاصة
بعد هذا المقال، آمل أنك رأيت ما أرمي إليه، بأننا قبل كل شئ نحتاج حقاً إلى استبدال جذري لكل مناهجنا التي نشأنا عليها، هذا إذا أردنا أن نزاحم الرَّكِب. وإنما أعني بهذا كل ما نستطيع وضع أيدينا عليه من مناهل العلم ومشارب المعرفة، وصولاً إلى أساليب التربية في بيوتنا، تلك الأساليب التي تخرج علماءاً أو تخرج أشباه رجال أو مسوخاً مشوهة لاهم لها إلا طعامها ولباسها.
ليست هناك تعليقات: