سبعة ثقوب معرفية سوداء
إعداد و تقديم وترجمة
محمد زرنينتقديم
تعميما للفائدة، نقدم للقارئ ترجمة النص الكامل للمحاضرة التي ألقاها المفكر إدغار موران، بالرباط بدعوة من وزارة التربية الوطنية و الشباب بتاريخ 06/02/2004. إن صيغة المحاضرة عادة ما تلزم الباحث بتبني نظام في العرض يتوخى الوضوح والعمومية في معالجة قضايا، غالبا ما تكون معقدة وتستند على تفاصيل يصعب على غير المتتبع لعمل الباحث أو المفكر أن يستوعبها ويستحضر خلفيتها.
وتشكل محاضرة إدغار موران نموذجا لهذا التمرين البيداغوجي و الفكري الذي يلخص مسار حياة كاملة استغرقها النضال من أجل مستقبل أفضل، والبحث النظري والميداني، والتأمل الفلسفي في القضايا الكبرى للوجود البشري. و تأتي فائدة هذه المحاضرة من كونها تقدم المعالم الكبرى للمشروع التربوي الذي يدافع عنه إدغار موران، منذ سنوات، استنادا إلى نتائج وتراكمات مسار طويل في البحث والتفكير والنضال من أجل مستقبل أفضل يكون فيه الفهم والقرار في مستوى التعقد الذي يحكم تداخل المستويات و المرجعيات و الآفاق.
ويوجه موران سهام نقده القوي لكل هندسات الإصلاح، العاجزة عن إدراك مطالب التعقد، المؤمنة بالنفعية والناسية أو المتناسية للشرط الإنساني.
كما يظهر في هذه المحاضرة مدى أهمية، بل ضرورة توفر رؤية شمولية لدى كل من يطمح في أن يصلح المنظومة التربوية، و خطورة أصحاب النظرة التجزيئية و التقنية المحضة لقضايا التربية و التعليم.
بقي أن أشير، في الأخير، إلى أن مضمون المحاضرة يبقى متقدما عن الأفق المعرفي للمنظومة التربوية المغربية الحالية، بحيث يمثل نوعا من اليوطوبيا التي لا نعرف هل سيتمكن المجتمع المغربي يوما من أن يصل إلى أحد شواطئها أو يعيش أحد أزمنتها. وهو الأمر الذي يطرح سؤال القابلية الثقافية لنقل أو ملاءمة الأرضية المعرفية التي اقترحها موران في تقرير استشارته لفائدة منظمة اليونسكو- نشرت دار توبقال ترجمة له بالعربية - مع الواقع المغربي. و هو سؤال نترك أمر معالجته لمناسبة أخرى.
محمد زرنين
نص المحاضرة:
سأركز، في هذه المحاضرة، على أحد أهم الإصلاحات التي يفرضها إشكال التربية والتعليم الذي يتطلب، بدوره، العديد من الإصلاحات. إن أهم تحدي يواجه المسؤولين هو ذاك الذي يخص اختيار مضامين التربية ومعارفها، أو بالأصح المعارف الأساسية التي ينبغي أن تقوم عليها كل تربية.
وأنطلق من ملاحظة أنه يتم تعليم المواد الدراسية والتخصصات مفصولة عن بعضها البعض. ولهذا الفصل تاريخ طويل أدى إلى خلق ثقوب معرفية سوداء حقيقية في مجال المعرفة مما أعاق تقدمها، و جعل إصلاح المنظومة التربوية شبه مستحيل ما لم يتم التعرف على هذه الثقوب المعرفية السوداء.
و قد تعرفت، شخصيا، على سبعة ثقوب سوداء في النظام التربوي الحالي. و بناء على هذا التعرف، أحاول خلق روابط بين التخصصات لإنقاذ ما تبتلعه هذه الثقوب السوداء. و في هذا السياق، اقترح خلق سبعة كراسي تعمل على تحقيق هذا الهدف، و نشر المعارف السبع الضرورية التي من شأنها استرجاع ما يضيع في تلك الثقوب.
و أذكر، بهذه المناسبة، أن مهمة الجامعة هي مهمة جامعة للتخصصات، مهمة تجعل منها المؤسسة التي تعترف بتراث الماضي وتحاول إدماج الإبداعات الثقافية للحاضر و فتحها على المستقبل؛ و يعني هذا، أيضا، أنه لا يمكن للجامعة أن تكون مجرد مؤسسة تتكيف مع محيطها الحاضر والحالي، وتكتفي بخلق الاختصاصيين أو المهنيين، بل هي مطالبة بأن تحمي الثقافة و أن تحملها في أحشائها وتحفظ مطلبها الشمولي.
وليست الثقافة هي فقط مختلف المعارف التي تكون لنا حول مختلف المجالات، بل هي المعارف التي ندمجها في حياتنا اليومية لمواجهة رهانات الحياة الفردية والجماعية، السياسية و الاجتماعية. كتب روسو في كتابه التربوي الشهير: إميل أو في التربية : "أن يحيى، هذه هي المهنة التي أريد تعليمها له" قاصدا تلميذه. طبعا، لا يمكن أن نعلم التلميذ كيف يحيى بشكل مصطنع، بل ينبغي له أن يطور قدراته الخاصة التي تسمح له بإدماج ما يتعلمه في حياته؛ مما يعني أن علاقة المتعلم بمادة التعلم تتطلب دائما علاقة إبداعية أصيلة. و لكن لنتوقف، الآن، عند هذه الثقوب السوداء في مجال المعرفة، و نتبين أمرها.
الثقب الأسود الأول، أو ما تجب معرفته و عدم نسيانه بخصوص كل معرفة :
نعلم المعارف، ولكن لا نجيب عن السؤال الأساس: ما المعرفة ؟ و لا يتم الاهتمام بهذا السؤال إلا داخل تخصص فلسفي نخبوي يسمى الابستمولوجيا. كما لا يتم الانتباه إلى أن هذا المشكل (مشكل تعريف المعرفة) هو مشكل الجميع ومشكل كل واحد، في نفس الآن، لماذا؟
لأن مشكل المعرفة هو في الأساس مشكل الخطأ والوهم. هناك جملة شهيرة لماركس يقول فيها إن الناس لا يعرفون ما هم عليه من أحوال و لا ما يفعلون. و هي جملة لا تصدق على الناس فقط، بل تصدق حتى على ماركس نفسه. فهو لم يكن يعرف ماذا كان يفعل عندما كان ينجز أعماله. ولكن هذه الملاحظة تصدق علينا نحن أيضا. فعندما نفكر في الماضي، و نتأمله بنوع من التباعد، نجده عبارة عن سلسلة من الأخطاء والأوهام. وعندما نفكر في الماضي القريب، نتذكر الأهوال: النازية، الفاشية، الشيوعية، الستالينية، و الليبيرالية الجديدة. نكتشف أخطاء هذه المنظومات و أوهامها رغم أنها كانت تعاش كحقائق أكيدة. إن ما كان في الماضي حقيقية أصبح في الحاضر خطأ أو وهما. وهكذا نستمر في اكتشاف أخطاء الماضي بدون توقف. لماذا؟
لأن المعرفة الأكثر بساطة هي معرفة ترجع في الأخير إلى الإدراك الذي يبقى دائما إدراكا محدودا. إذ ليست المعرفة، أبدا، تلك الصورة المطابقة تماما لموضوعها. فهي لا تطابق واقعها تمام التطابق. إنها إدراك لبعض المنبهات والمثيرات الحسية التي تعاد ترجمتها ومعالجتها عن طريق آلاف الخلايا البصرية التي تنقل هذه المعطيات إلى الدماغ بطريق بالغة التعقيد تتحول عبرها تلك المعطيات إلى إدراك. وهي عملية لا زلت موضوع أبحاث جارية للكشف عن أسرارها.
فعل المعرفة هو إذن ترجمة معينة لواقع خارجي، وإعادة بناء له. و هو فعل نقوم به بشكل تلقائي من خلال ما يسمى بظاهرة الثبات الإدراكي، وتعني، أن الأشخاص الحاضرين والجالسين في آخر القاعة هم أصغر حجما في شبكية عيني من الأشخاص الجالسين بجانبي، و مع ذلك فإنني لا أتصور أصدقائي الجالسين في الصفوف الأمامية عمالقة، و الأصدقاء الجالسين في الصفوف الخلفية أقزاما. فأنا أعرف أن كل الحضور له نفس الحجم، تقريبا. إن سيرورة الثبات الإدراكي هي التي تضمن إمكانية إعادة البناء التي نقوم بها في عملية الإدراك.
ونعرف، من جهة ثانية، أنه لا يوجد حد فاصل بين الإدراك، من جهة أولى، و الهلوسة أو التهيؤات، من جهة ثانية؛ لا يوجد أي حد فاصل يظهر لنا الفرق بين الإدراك والتهيؤ. إن أصدقاءنا هم، عادة، من ينبهوننا، إلى ما نقع فيه من خلط. بعبارة أخرى، و ما دام لا يوجد اختلاف جوهري بين الإدراك والتهيؤ والوهم، فإننا نبقى معرضين إلى احتمال اعتبار ما قد يتهيأ لنا على أنه الواقع في حين أنه مجرد توهم. إن الوهم يتربص بنا في كل إدراكاتنا، بما فيها تلك التي نعتبرها الأكثر مباشرية، و التصاقا بالواقع الفعلي.
في هذا السياق، أحكي لكم عن حادثة شخصية، سبق لي أن كتبت عنها في أحد كتبي. ذات يوم، وجدت نفسي، بأحد مفترقات الطرق في الوضعية التالية: تغير اللون المنظم للمرور، و شاهدت، في تزامن مع ذلك، سيارة تصدم راكب دراجة هوائية. بالنسبة لي، لم تحترم السيارة الإشارة المنظمة للمرور في حين كان لصاحب الدراجة الهوائية الحق في المرور. فأسرعت لمساعدة راكب الدراجة و لتوبيخ سائق السيارة فإذا براكب الدرجة يقول لي: إني أنا الذي لم أحترم إشارة المرور! لماذا أخطأت؟ لأنه كان من المنطقي، بالنسبة لي، أن يصدم الكبير الصغير، وأن يكون الصغير هو الضحية الدائمة للكبير.
وتقودنا هذه الحادثة إلى طرح مشكل الشهادة، و بالتالي إلى طرح سؤال المعرفة. إنكم تعرفون أن الشهود يجدون، دائما، صعوبة بالغة في الشهادة بخصوص نفس الحدث رغم أنهم شاهدوه. و لكن هل شاهدوه بنفس الطريقة، ومن نفس الزاوية. هناك كتاب هام لمؤرخ انجليزي يدعى (نورتون كرو) يحمل عنوان: في الشهادة. و يتناول فيه وقائع الحرب العالمية الأولى حيث يظهر أن نفس الأحداث التي كان يعيشها نفس الجنود كانت تدرك بطرق مختلفة. لهذا علينا أن نحتاط من إدراكاتنا، وأن نعي حدود منظورنا. فإذا اقتنعنا بأن الأفكار والنظريات والتصورات هي ترجمات و تأويلات، فإننا، في هذه اللحظة، نعترف بأننا نواجه مشكلا كبيرا، هو ميلنا "الطبيعي" إلى الوهم. و هو ميل يحيط بنا من كل جانب، ويهددنا باستمرار رغم محاولتنا التخلص منه. لهذا ينبغي أن نربي أنفسنا على التعامل مع فخاخ المعرفة؛ وأن نتعلم غربلة ومراجعة التأثيرات الثقافية التي تمارسها علينا المدرسة والعائلة بخصوص أفكار تظهر بديهية كفكرة المجتمع، والطبقة، والفئة، والعائلة، الخ. علينا، عموما، أن نتعلم التحكم أيضا في التأثير التي تمارسه هذه الأفكار على العقول التي تعتقد فيها بصفة مطلقة. و لحسن الحظ، توجد دائما في كل المجتمعات عقول ترفض هذه البداهة المفروضة أو المألوفة. و لكن رغم حسن الحظ، هذا، يبقى، مع ذلك، خطر اليقين النهائي يهدد سيرورة المعرفة بإيقافها أو إنهائها. و هنا، نواجه مهمة أساسية: ضرورة تنسيب معرفتنا، و تعميم تدريس هذا التنسيب.
و علينا الانطلاق من الإقرار بأن الأفكار ليست مجرد أدوات يستخدمها الإنسان لمعرفة الواقع، فنحن، أيضا، يمكننا أن نصبح أدوات لأفكارنا. فنحن نجد، في مختلف الديانات، الآلهة حاضرة بقوة وفعليا رغم أنها – أنثروبولوجيا و سوسيولوجيا و نفسيا- مجرد أفكار إنسانية. فللآلهة سلطة عظيمة على البشر تجعلها تطلب منهم الطاعة و الموت والقتل من أجلها. ويتعلق الأمر هنا بظاهرة التملك الفكري أو الاستحواذ؛ و تصدق نفس الملاحظة على الأيديولوجيات الكبرى. فهي أيضا تطلب الموت من أجل الأفكار الكبرى. لهذا ينبغي، لنا تربويا، تدريس كيف يمكن أن تكون هناك علاقة حوار بيننا وبين أفكارنا (التأمل الانعكاسي) لا يمكننا أن نمنع الأفكار من أن تملكنا وتستحوذ علينا، و لكن يمكننا، نحن، أيضا، أن نراقب هذه الأفكار التي تراقبنا. لهذا السبب ينبغي لتدريس الحذر أن يشكًل أولوية، و هذا ليس فقط في التدريس الجامعي، بل منذ السنوات الأولى للتعليم الأولي. نعم ثمة ضرورة لتدريس كيفية مواجهة خطر الوهم والخطأ في كل عملية إنتاج للمعرفة وتحصيلها دون أن يعني ذلك ضمان النجاح بصفة مطلقة في ذلك. و لكن يمكننا، مع ذلك، تكوين مناعة ضد هذا التوجه نحو الوهم. و هي مهمة يمكنها أن تكون أساسية.
الثقب الأسود الثاني، أو كيف تتحول المعلومات إلى معرفة وجيهة:
ليست كثرة المعلومات هي المعرفة الوجيهة؛ و ليست لهذه الأخيرة أية علاقة بالمبالغة في الترميز أو التعقيد. إن المعرفة الوجيهة هي تلك التي نتعرف من خلالها على القدرة على تنظيم المعلومات وتأطيرها ضمن سياقها الذي يبقى أهم من المعلومات في حد ذاتها. إننا نتلقى معلومات كثيرة من التلفزة، ولكننا لا نستفيد منها إلا إذا كان عمل رئيس التحرير متقنا ومنظما و استطاع تأطير تلك المعلومات التأطير الوجيه الذي يحولها من مجرد معلومات متفرقة حول الحدث إلى معرفة بالحدث. فإذا أخذنا، مثلا، حالة النزاع بكوسوفو، فمن الواضح أنه لا يمكن لمن لا يستطيع استحضار الخلفية التاريخية للأحداث و تاريخ كوسوفو وليس فقط جغرافيته، و عمق تأثير الإمبراطورية العثمانية الخ، أن يفهم شيئا. ففي هذه الحالة، حالة غياب التأطير، تكون المعلومات مجرد أخبار متفرقة تسقط كالمطر و ليست لديك فرصة لتنظيمها والتحكم فيها. إن المعرفة الوجيهية هي التنظيم الملائم للمعلومات. فإذا كان تنظيم المعلومات جيدا و مفتوحا على المتغيرات بحيث يستطيع إدماجها فإنه يولًد معرفة جديدة و يكون قابلا لإدماج واستيعاب المعطيات الجديدة. أما إذا كان التنظيم صارما ومغلقا كما هو حال التنظيمات السياسية، فإنه يتجاهل المعطيات التي لا يستوعبها أو لا يرغب فيها، مما يشكل خسارة لما تم تجاهله.
إن مشكل تنظيم المعلومات مشكل عويص. وعوض أن يواجه تدريسنا هذا المشكل فإنه يتبنى منهاجا يفصل بين التخصصات والمواد الدراسية، وبذلك، يضعف القدرة التي تكون للإنسان لوضع الأفكار في سياقها و تأطيرها التأطير المولًد للمعنى. كان الشاعر إليوت يردد عبارة جميلة يقول فيها: "ما هي المعرفة التي نفقدها في الإخبار؛ و ما هي الحكمة التي نفقدها في المعرفة؟" و الحكمة، هنا، هي فن استيعاب هذه المعارف وهضمها لتساعدنا في حياتنا الخاصة.
لنأخذ مثالا آخر من أحد العلوم الإنسانية الأكثر دقة و تنظيما. وليكن هو علم الاقتصاد لأنه يقوم على الحساب، وهو علم دقيق، و توجد جائزة نوبل للاقتصاد الخ. و لنطرح السؤال التالي: لماذا يواجه هذا العلم الدقيق مشاكل في تنبؤاته وفي بناء نماذجه التفسيرية؟ لماذا لا يستطيع علماء الاقتصاد التنبؤ بما قد يحدث، فيتساوون في ذلك مع رجل الشارع رغم علمهم؟
طبعا لأنه لا يمكن اختزال الاقتصاد في الحساب فقط. بل هناك الحاجيات المتولدة باستمرار، وهناك الرغبات والأهواء واللذة، وهناك التخوفات والتوجسات، كل هذه العوامل تجعل عالم الاقتصاد عالما معقدا تتداخل فيه هذه العوامل سواء كانت اجتماعية أو نفسية أو سياسية أو مالية الخ. فإذا كان علم الاقتصاد علما مغلقا، فلا يمكن أن تربطه علاقة بباقي العلوم، وبباقي مظاهر الحياة الاجتماعية، وبالتالي، فإنه سيجهل كل ما لا يدخل في الحساب و كل ما لا يقبل الحساب. و ما هذا الذي لا يحسب؟ طبعا، إنه الألم، والعذاب، والسعادة، والشقاء، والإنسانية، والإبداع، والحياة. نواجه، إذن، مشكلة حقيقية لا يمكن أن نحلها إلا إذا تبنينا فكرا علائقيا، فكرا يفكر بالعلاقات. إننا في حاجة لفكر يربط و يؤطر؛ إننا في حاجة لفكر يؤطر المعلومات ويضعها في سياقها، ويربط هذا السياق بأنظمته الكبرى التي تؤطر هذه المادة أو تلك، علما بأن النظام العام الكبير، اليوم، ليس هو النظام الوطني و لا حتى الجهوي، بل هو النظام الكوكبي. إن النظام العام هو النظام الأرضي بمعناه الأشمل.
إن كل حدث كوكبي (عالمي) يؤثر على ما هو محلي بشكل مباشر أو غير مباشر، كما أن الحدث المحلي يجد صداه على مستوى الكوكب الأرضي بأكمله. إن هذا المعطى الأساس في عصرنا هو ما يعجز نظامنا المعرفي و التربوي عن متابعته و استيعابه، فهو عاجز عن ربط المحلي بالكوني و بالكوكبي، واستخلاص النتائج التربوية لذلك. إنه لا يستطيع إدراك السياق الشمولي للمعطى المحلي أو الجهوي؛ كما أنه يعجز عن تبيًن روابط الجزئي بالكلي. إن هذا العجز هو الثقب الأسود الذي يبتلع و يعدم كل ما يمكن التوصل إليه بفضل هذا الربط، و بفضل المعرفة الوجيهة التي تكون قادرة على تصور المشاكل الأساسية والشاملة في سياقها الكوكبي بجميع أبعاده ودلالاته. و هذا هو أساس العمل الذي قمت به في عملي الذي أسميته المنهج، حيث حاولت تطوير أدوات المعرفة التي تسمح بربط المعارف المفصولة عن بعضها البعض. و أكتفي، هنا، بمجرد الإشارة إليها لضيق الوقت.
الثقب الأسود الثالث، أوالشرط الإنساني تلك القارة المنسية:
و يخص هذا الثقب الشرط الإنساني؛ كما أنه يستدعي الاستغراب والدهشة، إذا لا يوجد مكان خاص ندرًس فيه و نعلًم شرطنا الإنساني، أي ما نحن عليه من أحوال باعتبارنا كائنات إنسانية. و هو موضوع مهمل ليس فقط من طرف العلوم الاجتماعية والإنسانية والتاريخية، بل حتى من طرف العلوم الدقيقة لأن جزء هاما من النشاط الإنساني يندرج ضمن موضوعات هذه العلوم الأخيرة باعتبارنا حيوانات تنتمي إلى الثدييات، بل و حتى بالنسبة للعلوم الفيزيائية و الكيميائية. فنحن نعرف، اليوم، أن الحياة هي تنظيم لعناصر فيزيائية-كيميائية، جزئيات تتكون من ذرات. إن جزء من الوضع الإنساني هو واقع فيزيائي-كيميائي. و لكن تدريس هذه العلوم مفصولة عن بعضها البعض لا يجعلنا ندرك هذه الروابط وتشكيلها للإنسان رغم أن الواقع الفعلي لوجوده يعكس التحام هذه العوامل وانصهارها فيه. فبفضل تطور علم الفلك وآليات الملاحظة والتتبع، على المتسويين الماكروفيزيائي و الميكروفيزيائي، نعرف أننا نحمل في جسدنا جزئيات يرجع تاريخها إلى الثواني الأولى لميلاد الكون. فكياننا المادي يحمل ذرات من الكربون تكونت في قلب نجوم سابقة على شمس منظومتنا، و بعد انفجارها( النجوم) تشتت أو/واجتمعت هذه الذرات في الكوكب الصغير الذي نسميه، اليوم، الأرض. كما نعرف، اليوم، أن العناصر الأولية، تراكبت حتى توفرت شروط ظهور الحياة. و أقول إننا نحمل داخلنا الخلايا الحية الأولى التي ظهرت في الثواني الأولى لظهور الحياة على الكوكب الأرضي؛ كما نحمل داخلنا العالم الحيواني؛ و نحمل داخلنا، أيضا، بنية الكائنات الفقرية، وكل ما يرتبط بتاريخ الثدييات فنحن نرضع الأبناء؛ و نحمل داخلنا الشواهد على الحياة البدائية.
لكننا تجاوزنا كل هذا لأننا كائنات تنفرد بالثقافة واللغة والوعي والبعد الروحي مما يجعل وضعنا الإنساني وضعا غريبا ومثيرا. فنحن، على مستوى أول، ننتمي لهذا الكون انتماء قويا تشهد عليه خلايا أجسادنا وتركيبتنا المادية؛ و نحن، على مستوى ثان، ننفصل عنه ونتعالى عليه بالوعي: إننا كالأيتام في هذا الكون، لأننا نتميز بهذه الخاصية التي تجعلنا كائنات واعية تتساءل عن مآلها وقدرها.
إن شرطنا الإنساني شرط معقد. و هذا يعني أننا لسنا فقط مجرد أفراد، بل نحن أفراد ينتمون إلى مجتمع، و في نفس الآن، إلى النوع البشري. وهذا معطى معقد لا ينفع معه أي حساب إذ لا يمكن لنا القول إن الكائن الإنساني هو كائن بيولوجي بنسبة 33% ، وثقافي بنسبة 33% وسوسيولوجي بنسبة 33 %، بل هو كائن بيولوجي 100%، وثقافي 100%، و سوسيولوجي 100%، إن هذا المعطى هو الذي يطرح علينا مشكل الفكر المعقد الذي لم نتعود عليه، ولا نمتلك منهجيته و لا أدواته. و لا يمكن لنا مواجهة المشكل إلا إذا تبنينا القول بنوع من الارتباط المغلق والمفتوح في نفس الآن، مفاده أن طرفي العلاقة ضروريان لبعضهما البعض ضرورة تامة غير منقوصة بحيث يكون المنتوج ضروريا لمنتجه. فنحن نتاج ظاهرة توالد بيولوجي ( تكاثر النوع بحسب برامجنا الوراثي)، و لكن بفضل هذه الخاصية، فنحن، أيضا منتجون، فنلد الأولاد و لا يكون كل مولود عضوا في الجماعة البشرية فقط، بل إنه مولود يحمل في ذاته وكيانه النوع البشري. و نفس الشيء بالنسبة للعلاقة بالمجتمع فنحن ننتمي إلى المجتمع بالقدر الذي نكوًن فيه هذا المجتمع. إننا داخل المجتمع، والمجتمع داخلنا. فنحن نتعلم، منذ طفولتنا الأولى، منظومة المعايير والقيم واللغة والثقافة و قواعد السلوك. و هذا ما أسميته بمبدأ الاشتمال: اشتمال الجزئي على الكلي بحيث يكون الكل متضمنا في الجزء. و بالتالي تتخلى طريقة تفكيرنا عن اعتبار أن الجزء هو الوحيد الذي يكون متضمنا في الكل، و أن الكل لا يمكنه أن يتضمن في الجزء. إن الكل يكون هو أيضا ضمن الجزء. إذا استوعبنا هذا المبدأ أدركنا الشرط الإنساني و تعقده.
غير أني أضيف إلى هذا المجال مجالا آخر لا يقل أهمية عنه لفهم واقع الشرط الإنساني، إنه مجال الأدب، والرواية بصفة استثنائية. إذ تستطيع الرواية أن تظهر لنا ما لا نستطيع العلوم الإنسانية إظهاره. فهذه الأخيرة تظهر لنا الإنسان من خلال خصائصه الموضوعية والخارجية، ولكن الرواية تنفذ إلى عمق الإنسان وتكشف لنا عالمه الداخلي، كما تظهر لنا الذوات من خلال طريقة تفكيرها، وتوترات أهوائها، وطموحاتها وحمقها، وذكائها، وعلاقاتها الاجتماعية وسياقها التاريخي. و يمكن أن نأخذ رواية الحرب والسلم لتلستوي كمثال بحيث نستطيع القول إنه بفضل الأدب نستطيع معرفة الذات الإنسانية، بل و يمكننا النفاذ إلى عمقها بفضل الأعمال الأدبية الرائعة لمارسيل بروست أو دويستفسكي، مثلا، كما يمكننا الاقتناع بفضل قراءة هذه الأعمال.إن كل واحد منا يحمل داخله شخصيات وليست شخصية وحيدة و واحدة. لنقل بهذه المناسبة إن الأدب ليس شيئا كماليا بل هو ما به ننفذ إلى أعماقنا. وهذا ما ينبغي للمدرسين أن يفهموه و يستوعبوه و أن يوجهوا التلاميذ إليه عوض إفقار هذه العلاقة بالاكتفاء بتحليل النصوص وتشريحها سيميولوجيا و نحويا.
و لا تتجلى ضرورة الأدب في ضرورة الرواية فقط، بل أيضا، في ضرورة الشعر الذي لا نرى فيه مجرد ذاك الشيء الجميل في حد ذاته بموسيقاه المتفردة، لأن الشعر هو تعلم وانفتاح على شعرية الحياة. إنه باب آخر نلج منه إلى عمق العالم الإنساني الشاسع.
عرًف الإنسان، قديما، بأنه حيوان عاقل. و ينبغي لنا، اليوم، الاعتراف بأنه ليس فقط حيوان عاقل، بل هو أيضا حيوان مجنون. و قد سبق للفيلسوف كاستورياديس أن قال: إن الإنسان حيوان مجنون، و لكن جنونه خلق العقل.
و عرًف الإنسان، قديما، بأنه صانع للأدوات، وبالتالي عرًف بمهارته التقنية. و هذا أمر واقع لدى البشر، و لكن ينبغي لنا، التأكيد على أنه منذ ميلاد البشرية كان هناك، دائما، لدى البشر اعتقاد في عالم آخر، كان لديه اعتقاد في الأساطير و الديانات. و هذا ما يجب التوقف عنده مطولا، وليس عند مهارته التقنية. فنحن نعرف اليوم أن صناعة الأدوات سابقة على ظهور الإنسان العاقل، كما أن الأبحاث أكدت وجود هذه المهارات عند بعض انواع الشامبنزي المسماة (بونوبو) حيث يعلم الكبار الصغار بعض تقنيات صناعة الأدوات. و لكن الفرق الأساسي يبقى هو الاعتقاد في حياة أخرى بعد الموت. كل الأساطير الإنسانية تؤكد هذا الأمر.
كما عرف الإنسان، ابتداء من القرن الثامن العاشر، ككائن اقتصادي تحركه مصلحته الاقتصادية؛ و لكن هذا التعريف ينسى كل ما يستطيع الإنسان فعله بعيدا عن مصلحته الاقتصادية و أحيانا، ضدها: كاللعب والهبة، و الممارسات المجانية الخ.
لكل هذه الاعتبارات يجب أن نحذر بعض الشيء عندما نطرح موضوع الشرط الإنساني، فعندما ننظر إلى الإنسان من زاوية مظهره الاقتصادي أو التقني أو العقلي فقط، فإننا لا نرى من هذا الإنسان إلا جانبا واحدا. والحال أن المظاهر الشاعرية للحياة هي تلك التي نتعرف عليها في اللعب، وفي الاتحاد والالتحام، والتعاطف مع الآخرين، و في العطاء، و في الحب. إنها مظاهر شعرية الحياة. كان الشاعر هو لدرلين يقول: "الإنسان يسكن الأرض شعريا" نجد هذا التصريح متفائلا جدا. لهذا قيل الإنسان يسكن الأرض شعريا وعاديا. ولكن من الأهمية القصوى أن نعلًم كيف نحيى الحياة شعريا وكيف نستضيف الشعر في حياتنا.
وأسجل على مستوى آخر، و دائما بخصوص الشرط الإنساني، أنه يتم تصور العقل الإنساني في نشاطاته مفصولا عن النشاط الإنساني بأبعاده الكبرى، وعن الأهواء.وهي فكرة خاطئة اليوم. و يمكن رفضها كليا، بناء على نتائج أبحاث (انطونيو دامسيو) و(جان ديدي فانسان) ودراسات أخرى للدماغ البشري أظهرت أن النشاطات العقلانية للدماغ تشغًل وتنشًط مناطق دماغية انفعالية. فعالم الرياضيات عندما يقوم بحل مشكلة رياضية لا يكون فقط بصدد إنجاز عمل تقني صرف وخالص، بل إنه يقوم أيضا بنشاط انفعالي. لا يمكننا اليوم فصل الأهواء عن النفعية و لا عن العقل. الكل يشكل تركيبة معقدة. و لهذا المعطى الأساس نتائج مهمة في مجال التربية. و أحد الخلاصات الهامة هي أن النشاط الانفعالي يبقى حاضرا بكيفية ما، حتى في النشاط العقلاني المجرد كما يبقى البعد العقلاني حاضرا بكيفية ما، حتى في الأنشطة الانفعالية.
إن معرفة الشرط الإنساني و الهوية الإنسانية يستدعيان الربط بين التخصصات التي تدرس اليوم منفصلة عن بعضها البعض. و لهذا أرى أنه بجانب كرسي يخصص للمعرفة كما حددناها، لابد من تخصيص كرسي للهوية الإنسانية يكون من مهامه توجيه عقول المتعلمين نحو الربط بين المواد والتخصصات لبناء هوية تقترب أكثر من التعقد الذي يطبعها.
الثقب الأسود الرابع، أو ضرورة السير في طرق الفهم والتفاهم
يتعلق الأمر، هنا، بكيفية فهم بعضنا البعض. فنحن نلاحظ، من جهة أولى، الانتشار الواسع لوسائل الاتصال و تعقد شبكة المواصلات السلكية واللاسلكية التي لم تعرف البشرية مثيلا لها (الهواتف المحمولة، الأنترنيت الخ) و نلاحظ، من جهة ثانية، عدم فهمنا لبعضنا البعض، و عدم التفاهم بين الأمم و القارات والثقافات، مما يعني أن التواصل لا يأتي بالضرورة بالفهم و لا بالتفاهم. نجد نقل المعارف و المعلومات، ولكن لا نجد الفهم و لا التفاهم.
كما نجد، على مستوى آخر، أن القرب لا يضمن بالضرورة الفهم والتفاهم، سواء داخل نفس العائلة، بين الآباء والأبناء، بين الإخوة والأخوات، أو حتى داخل نفس مكان العمل، أو نفس الجامعة. إن عدم التفاهم ليس هو فقط ذاك الشر الذي يجعل العلاقة صعبة بين الشعوب و الديانات، و لكنه ذاك الشر الذي يمس الحياة اليومية لكل واحد منا. كيف يمكننا تحقيق التقدم و الرقي بالعلاقات الإنسانية إذا كنا عاجزين عن التفاهم بيننا ؟.ما هي هذه العوائق التي تمنع التفاهم في العالم المعاصر؟
نجد، دائما أن الشر يأتي من علاقة محددة، هي تطور النزعة الفردية تطورا أعطى الفرد مزيدا من الاستقلالية. و ينبغي الإسراع بالقول إن هذه الخاصية تعتبر معطى حضاريا أساسيا وإيجابيا. ولكن عندما يتم هذا التطور( تطور النزعة الفردية) على حساب روابط التضامن التقليدية، فإنه لا يخلق فقط العزلة، بل يصنع الأنانية و التبرير الذاتي، و تجريم الآخرين، و تحميلهم مسؤولية جميع الأخطاء.
مثلا، لا أعرف هل تعرف مدينة الرباط أو الدار البيضاء نفس الاكتظاظ الذي تعرفه مدينة باريس في حركة السير، في ساعات الذروة، ولكنه مشهد مفيد؛ فعندما يشاهد الشخص ما يقع بسبب هذا الازدحام من انفعال وسب و شتم، فإنه يقتنع بسهولة بصعوبة التحكم في الانفعالات، وفي الانتباه إلى الآخرين ومحاولة فهمهم.
إضافة إلى هذا المعطى هناك شيء آخر ركز عليه الفيلسوف هيغل ألا و هو اختزال الغير في أحد خصائصه، أي عزل عنصر واحد من عناصر هويته والتركيز عليه، واختزاله فيه. و هذا هو العمل الأسوأ. يقول هيغل إذا وصفت رجلا قام بجريمة واحدة في حياته بالمجرم فإني أنزع عنه كل مظاهر حياته وأفعاله لأسجنه في هذا المظهر الوحيد، و لأرجعه إليه. إن هذه الآلية التي تحدث عنها هيغل هي أحد آليات سوء الفهم والتفاهم. و هي لا تصدق على الحالات الفردية فقط، بل إنها تصدق حتى على الجماعات. فحرب كوسوڤو التي وقعت بين مكونات كانت إلى وقت قريب تشكل "أمة واحدة" أظهرت كيف أن آلية اختزال الغير في عنصر واحد فقط، من عناصر هويته و تاريخه، هي تنكر لتاريخ مشترك سهل كل التجاوزات باختزال العدو في صفة واحدة. إن عدم التفاهم هو الخميرة التي تنمي أسوء مظاهر العداوة والحقد التي يمكنها أن تنتشر بين الناس و بين المجتمعات.
و يهمنا، هنا، جانب آخر في التفاهم ألا و هو تجاوز اللامبالاة إزاء الغير. فالتفاهم لا يعني فقط التعرف على الغير، موضوعيا: طوله، لونه، ملامحه، لغته، مهنته، الخ، بل التعرف عليه عن طريق الإحساس و التعاطف. فإذا رأيت طفلا يبكي فإني أتفهم حالته و أنفذ إليها بإحساسي المتعاطف، لأني كنت طفلا، و أحسست بما أحسه، و أعرف ماذا يعني البكاء. فإذا لم يكن هذا التعاطف، فلن يكون هناك أي شكل من أشكال التفاهم.
و لتفسير هذا الأمر، أسوق مثلا آخر، و ليكن هو ما يجري في قاعة العرض السينمائي. هناك من الناس من يقول إنها مكان للاستيلاب، حيث يتم تخذير المتفرج و فصله عن الواقع، و إفقاده جزءا كبيرا من استقلاليته. ربما كان هذا صحيحا. و لكن هناك مظهر آخر يكتسي أهمية بالغة، ألا و هو التماهي، فمن خلال التماهي مع شخصيات الفيلم، نربي فينا الانفتاح على الآخرين، والانتباه إليهم كما هم، و بالتالي، نفهم حتى أنفسنا.
و لا تصدق هذه الملاحظة على الشخصيات الطيبة أو المحبوبة، فقط، بل تصدق حتى على الشخصيات التي تجسد القوة والبأس والقهر. فإذا تذكرنا مثلا فيلم "العراب" لفرانسيس كوبولا، وانتبهنا إلى رئيس العائلة أو رب الجماعة كما أداه كل من الممثل بروندو أو ألباسينو، فإننا نجد أنه يقدر على ارتكاب أفعال بالغة القسوة و البأس، و القتل ببرودة أعصاب تامة، ولكننا نعرف أنه يقدر على الحب والوفاء و الإخلاص؛ وأنه يتألم و يبكي كباقي البشر؛ فنحن نفهمه في شموليته وكليته.
يحدث نفس الشيء عندما نشاهد شارلي شابلن في دور المتشرد المتسكع، فنتعاطف معه بشكل لا يصدق، و مع ذلك بمجرد ما نخرج من قاعة السينما و نصادف متشردا، فإننا نبدي نفورا منه و لا نبالي به. إننا ننفذ إلى أعماق هذه الشخصيات و نفهمها بفضل التماهي. و نفس الشيء يصدق على الشخصيات الروائية أو المسرحية كشخصيات وليام شكسبير، مثلا.
في الواقع، هناك مفارقة: نستطيع، عبر الفن والأدب، التعاطف مع هذه الشخصيات وفهمها، و لكننا في الواقع اليومي لحياتنا لا نستطيع ذلك؛ و نكون كالنائمين. و هو ما يعطي معنى لعبارة هيراقلطس، الفيلسوف الذي تكلم كثيرا بالاستعارات، تلك العبارة الرائعة التي يقول فيها:"يقظون، لكنهم نائمون" وهي عبارة تستحق أن نتأملها باستمرار.
إن ضرورة فهم الغير تخلق ضرورة فهم الذات، و تفادي التبرير الذاتي و تجريم الغير، والكذب على الذات، و هي تجارة رائجة بيننا اليوم. فهناك العديد من الشروط التي يمكنها أن تساعد على تربية ملكة الفهم و تطويرها. و يمكن تدريسها منذ الفصول الدراسية الأولى، و ليس انتظار الوصول إلى مرحلة التعليم الجامعية للقيام بذلك.
إن اللاتفاهم يسود العالم و يهدده؛ و من المؤكد أن ضرورة التفاهم هي المطلب الملح للرقي بمستوى العلاقات بين البشر.
الثقب الأسود الخامس، ندرًس اليقين و لا ندرس اللايقين و المحتمل والمفاجئ
لا نكوًن لمواجهة مفاجآت الحياة. و الواقع أن البشرية طورت أساليب لمواجهة هذه الأحوال بالتنجيم والفراسة والسحر والعبادة والدعاء. و لكن أعتقد أنه ينبغي لنا الذهاب بعيدا في البحث من دون تجاهل هذه الكيفيات في المواجهة والتحكم التي طورتها البشرية. نفهم كيف أن اللايقين و المحتمل يشكلان جزء صميميا من حياة كل واحد منا منذ ولادته. لا أحد يعرف مسبقا الأمراض التي ستصيبه، أو مصيره في الحياة؛ و لكن بقدر ما يتقدم المرء في الحياة بقدر ما يكتشف، و بقدر ما يتفاجأ. إنه لا يعرف هل سيكون زواجه سعيدا أو شقيا؛ إنه يعرف، فقط، أنه سيموت، و لكنه لا يعرف تاريخ موته. هذه بعض الملاحظات عن علاقة اليقين باللايقين على المستوى الفردي.
أما على مستوى العلوم، فإنها حققت، منذ فجر القرن العشرين، تقدمها باختراق مجال اللايقين و المحتمل. فعلوم القرن التاسع عشر، بما فيها علوم الفيزياء، كانت علوم الحتميات المطلقة، و كانت تتبنى الدعوة القائلة: إذا عرفنا كل الشروط توصلنا إلى كل النتائج كما هي محددة. و كان مناخها الإيديولوجي و الفكري هو مناخ دعاوي التقدم. في القرن العشرين، لم تعد الفيزياء الجزئية( فيزياء الكوانطا) هي الوحيدة التي تقول باللاحتمي، بل حتى فيزياء الكاووس. لقد توصلت هذه العلوم كلها إلى أن السيرورات المحددة في الأصل، بمجرد ما تصبح موضوع تفاعلات فإنه لا يمكن التنبؤ بنتائجها إلا على وجه الاحتمال. و يقودنا هذا إلى مجموعة من النتائج الهامة، أهمها الشك في كل نتيجة قد تعتبر نهائية و مطلقة؛ فما يظهر أنه ظاهرة محكومة بحتمية تعكسها معادلة رياضية صارمة، كحركة دوران الأرض حول الشمس، مثلا، يبقى كذلك في حدود معينة. و هو أمر صحيح. و لكن الأبحاث و الحسابات الرياضية تؤكد أن نفس الأرض التي تدور بهذه السرعة المحسوبة بدقة رياضية، هي نفسها كانت تدور حول الشمس بسرعة أكبر في ما مضى؛ و لا نعرف بأية سرعة ستدور في ملايين السنين القادمة. و بالتالي، فإن العديد من الظواهر التي تظهر حتمية اليوم لا تكون كذلك إلا في حدود زمنية قصيرة نسبيا.
و لكن، و حتى لا أطيل عليكم في مجال النظرية الفيزيائية، لآخذ مثالا آخر من البيولوجيا والتطور البيولوجي. إننا نعرف أن كوارث كونية كانت مصدرا لظهور الحياة على الأرض. كما نعرف أن كوارث طبيعية أخر عرفها العصر الجيولوجي الأول أبادت العديد من الكائنات الحية؛ و هي نفس الإبادة التي سمحت بظهور أنواع أخرى. و هناك أيضا الكارثة الثانية التي عرفتها الأرض في نهاية العصر الجيولوجي الثاني، ربما بفعل اصطدام نبزك قادم من الفضاء بالأرض و ما تولد عن الاصطدام من دمار شامل و تغير في المناخ والتضاريس مما قضى نهائيا على الدينصورات، و سهًل نمو و تكاثر حيوانات صغيرة آكلة للحوم (لحوم الدينصورات). و هو نفس التطور الذي سمح بظهور النوع البشري. إن الدرس الذي يمكن استخلاصه من تاريخ الحياة هو أنه تاريخ الكاوس و الصدف و اللامؤكد و المفاجئ.
و تصدق نفس الملاحظة على التاريخ البشري الذي حاولنا دائما جعله تاريخيا متصلا و عقلانيا و كأن له غاية محددة سلفا.إنه تاريخ انهيار الامبراطوريات وتلاشيها: الإمبراطوريات الأشورية، البابلية، الفرعونية، الصينية، الرومانية، بل و حتى الامبراطوريات الحديثة والمعاصرة: الامبراطورية العثمانية، و الامبراطورية السوفياتية. باختصار، إن تاريخ البشرية هو نفسه تاريخ لا يحكمه قانون صارم وحتمي. فهو تاريخ الأحداث و الوقائع العظمى، تاريخ الحروب العالمية مع نتائجها غير المحسوبة وغير المرتقبة والمفاجئة.
ينبغي لنا، إذن، تدريس اللايقين و المحتمل لمواجهتهما. و أود بهذه المناسبة أن أقف عند شيء هام على هذا المستوى، غالبا ما يغفل، و أسميه بإيكولوجية الفعل.و يعني أنه عندما يبدأ فعل ما سواء في وسط اجتماعي أو طبيعي، فإن ذلك الفعل يفلت تدريجيا من إرادة الفاعل الأول ليدخل في سيرورة تفاعل قد تغير اتجاهه أو مساره. و تقدم الثورة الفرنسية مثالا تاريخيا هاما.
نعرف أن الثورة الفرنسية جاءت كرد فعل للطبقة الأرستقراطية التي حاولت استغلال ضعف وعدم كفاءة السلطة الملكية لاسترجاع امتيازات فقدتها بعد قيام الملكية المطلقة للملك لويس الرابع عشر. فطلبت اجتماع المجلس الأعلى ((Etats généraux حيث كانت الكنيسة ممثلة و معها طبقة النبلاء، وعموم الناس((Tiers-états. و كان التصويت في هذه الهيئة يتم على أساس الفئة أو الهيئة المنتمى إليها، بحيث كانت الأغلبية للكنيسة وللنبلاء؛ و لكن في بداية الاجتماع تم فرض التصويت الفردي. فكانت النتيجة (1849) إلغاء الامتيازات.
مثال آخر، حاول كورباتشوف إصلاح الاتحاد السوفياتي فعجل بانهياره و تفككه.
نرى، مرارا، أن الفعل لا ينتهي إلى قصده الأول، بل غالبا ما ينحرف عنه و يخون هدفه الأول. و هذا أيضا درس هام يعلمنا أولا، أن كل قرار هو نوع من المراهنة، هو شيء لا نضمن نجاحه منذ الأول؛ و يعلمنا، ثانيا، ضرورة معرفة كيفية بلورة الاستراتيجية. و أميز، هنا، بين الاستراتجية و التخطيط.
البرنامج نحدده مرة واحدة، و بصفة نهائية، ليطبق بحذافيره. يتعلق الأمر بآليات يتم حصرها في مجال نتحكم فيه؛ أما عندما يتعلق الأمر بمجال متحرك للفعل، فإنه ينبغي جعل خطة العمل مرنة لإدماج المعلومات و المعطيات بحسب الشروط و المفاجئات و الطوارئ.
علينا أن نستحضر هذا الشيء؛ و أن نتذكر ما قاله المؤلف التراجيدي الإغريقي أروبيد، الذي قال إنه كتب كل تراجيدياته بفكرة أن الذي يحصل، عادة، ليس المنتظر أو المرتقب، بل اللامنتظر و المفاجئ. فللنتظر اللامنتظر، سيما و أننا نعرف أن كل معاهد المستقبليات لن تنفعنا في جعل المستقبل أمرا أكيدا، رغم كل السينوريهات.
إن مغامرة البشرية تسير دائما في اتجاه المجهول و ليس لنا سوى المراهنة أوالاستراتيجية.
الثقب الأسود السادس، تدريس الكوكبي:
ينبغي تدريس التاريخ الوطني؛ و ينبغي إدماج هذا التاريخ في تاريخ أوروبا، مثلا إدماج تاريخ فرنسا ضمن تاريخ أوروبا و ليس تدريس تاريخ أوروبا من زاوية تاريخ فرنسا؛ فنحن لا نعرف تاريخ أوربا الشرقية أو الامبراطورية العثمانية. ينبغي إدماج هذا التاريخ ضمن هذه التواريخ وهذه الأخيرة ضمن تاريخ كوني.
كانت هناك، في تاريخ البشرية، مرحلة أولى هي مرحلة التشتت والانتشار ( الامبراطوريات العظيمة القديمة)؛ و كانت هناك مرحلة ثانية بدأت مع الاكتشافات الجغرافية الكبرى، بمظاهرها الأسوأ والأفضل. الأسوأ ( العبودية، الاستعمار، الاكتشافات، المعرفة والعيش).
و المرحلة الحالية التي نسميها اليوم الكوكبية الشمولية حيث يتم إرساء البنيات التحتية لمجتمع - عالم لا يوجد بعد. و هي مرحلة تقودنا إلى حالة فوضى كاملة. و لكن هذا المعطى يفتح عيوننا على المشكل الحقيقي: صعوبة فهم الحاضر. يردد الفيلسوف الإسباني أورتيكا لوكاسيط: "لا نعرف ما يجري و هذا ما يجري". إنه جهلنا بحقيقة حاضرنا. إننا في حاجة ماسة لمعرفة حاضرنا بكيفية أحسن، لا لكي نعرف مستقبلنا، على نحو أفضل، بل لمحاولة إدراك ما يحدث، علما بأننا نعرف أن ما يحدث، لا يكون مرتقبا، بل غالبا ما يكون غير منتظر. و المفارقة تكمن في أن هذا الوضع يفتح باب الأمل بلامنتظره، أما المستقبل المنظور فإنه يخيف بتوتراته و أسلحته.
الثقب الأسود الأخير، أو أخلاقيات المركب الثلاثي: الفرد، المجتمع، والنوع البشري.
هناك أخلاقيات تتعلق بالفرد، بأقاربه و بذاته؛ و هناك أخلاقيات لتطوير الفرد؛ و هناك أخلاقيات المجتمع حيث الدمقرطة هي المطلب، و حيث يمكن للمواطنين أن يراقبوا مراقبيهم. و هنا نجد الدائرة المغلقة بين المواطنين والحكومة.
هناك أخلاقيات النوع البشري، وهي ليست فقط بيولوجية، بل هي أخلاقية وحدة القدر التي تجمع بين جميع البشر على الكوكب الأرضي إزاء المشاكل الأساسية، و أمام نفس الأخطار.
ويقودنا هذا التحليل إلى طرح سؤال كيف نفكر في الإصلاح؟
إذا خلقنا هذه الكراسي السبعة للمعارف الضرورية، مع ضرورة إعادة تكوين المدرسين بحيث يكون في مقدورهم القيام بتدريس يتطلب تكوينا متينا وقدرة على الجمع و التركيب، فإن الإصلاح يكون ممكنا. و يمكننا التقدم ومواجهة قدرنا. وأضيف إنه سيكون من المستحب أن تخصص كل جامعة، و كل كلية نسبة 10 % من برنامجها لجميع التخصصات؛ و هذا ما أسميه "الذمة الإبستيمولوجية". التي ينبغي أن تجيب، بالضرورة عن أربعة أسئلة أساسية:
السؤال الأول: ما العقلانية؟ علما بأنه لا توجد عقلانية خالصة من الأهواء.
السؤال الثاني: ما العلم، و ما المعرفة العلمية؟ كثير من الفلاسفة يفكرون في مفهوم العلم، أما العلماء فلا يفكرون في العلم.
السؤال الثالث: ما التعقد؟ ما حقيقة هذا البناء المعقد للظواهر، و كيف يمكن للفكر البشري أن يستوعبها في تعقدها لا أن يشوهها بتبسيطها؟ إن المعرفة المطلوبة تتعدى معرفة المكونات و الأجزاء، بل هي معرفة بما يعطى للإدراك ككل.
السؤال الرابع: ما الحضارة؟
هذه بعض الآفاق التي قدمتها هنا، باختصار شديد، علما بأنه يمكننا خلق كليات جديدة ككلية الإنسان حيث يتم جمع كل يتعلق به من علوم.ويمكن خلق الكلية للكون، الخ..
يمكننا إذن إعادة تنظيم المعارف والتخصصات ولا يكمن المشكل في حذف التخصصات، بل يكمن في لا تحاورها، و في عدم انفتاحها على بعضها البعض، مما يجعلها لا تتحول إلى تراث حي، و إلى ثقافة. إن الثقافة الإنسانية، اليوم، معطوبة بانشطارها إلى ثقافة علمية، مغرقة في التخصص ومنغلقة على ذاتها ولا تفكر فيما يقوم به العلم من جهة، وثقافة إنسانية قوامها الفلسفة و الأدب و الفن و لا تفكر فيما يقوم به العلم؛ و هي نفسها لا تستند على مكتسبات المعرفة العلمية التي تعطينا فرصة التفكير في قدرتنا.
إن التواصل جمع المكونين هو الذي سيسمح بإحياء الثقافة على مستوى تلبية حاجيات الإنسان و العالم المعاصرين.
ليست هناك تعليقات: