التربية والتعليم .. كلمتان من المفترض أن يُبنى عليهما كل طفل، كل صبي، وكل شاب، هما المحور الذي يتمركز عليه مقياس تطور الأمم، هما أساس كل إبداع، كل تقدم، وكل إنجاز، هما أيضا محور حديثنا اليوم .. ولكن بأمثلة واقعية وقع حدوثها قبل مايقرب من 40 عاما، ولكن مازال تأثيرها واقعا حتى اللحظة ! وهما المسرحيتين المصريتين ” مدرسة المشاغبين و العيال كبرت “
لست هنا بصدد مهاجمة هذه الأعمال المسرحية أو القائمين عليها، ولكن من المفترض بناء كل عمل فني على رسائل قيّمة يزرعها في عقول المشاهدين قبل قلوبهم..
سنتحدث سوياً عن الرسائل المبنية عليها هذه الأعمال وإلى أي مدى نجح أو فشل صُناعها في توصيل هذه الرسائل إلى المشاهدين وترسيخها في عقولهم، ومدى تأثير هذه الأعمال على المجتمع.
لنبدأ أولا بمدرسة المشاغبين..
عُرضت مسرحية مدرسة المشاغبين لأول مرة في 24 أكتوبر 1973 أي بعد حرب أكتوبر بأيام قليلة، وقصة المسرحية مقتبسة عن الفيلم البريطاني To Sir with love، الذي عُرض لأول مرة عام 1967 .. وللمسرحية رسائل واضحة ألخصها في الآتي ..
الرسائل المبنية عليها المسرحية
1- تجسيد فترة إنهارت بها القيم في المجتمع العربي
عندما تم إنتقاد المسرحية وماتقدمه من احتقار للقيم والمثل العليا وانحطاط مستوى الأدب، صرح علي سالم مؤلف المسرحية قائلا ..
إن المسرحية كانت انعكاساً لفترة انهارت فيها القيم التقليدية للمجتمع المصري والعربي بشكل عام، والمعروفة باسم فترة ما بعد النكسة وما بعد الانفتاح، حيث تحولت قيم كثيرة إلى مثال للسخرية
2- مناقشة واقع عربي أليم بالسخرية
كانت هذه الرسالة واضحة تماما خلال أحداث المسرحية، ولكن هل نجحت هذه المناقشة في تقديم حلول جذرية وعلاجا عاجلا لهذا الواقع، أم ” زادت الطين بلة ” !؟
3- الإيمان بقدرة شخص على تغيير الواقع للأفضل
لعل الكثيرون لم يلحظوا هذه الرسالة بالمسرحية، نظرا لطغيان رسائل التجسيد والسخرية على الأحداث، ولكن هذه الرسالة متمثلة في المُعلمة التي استطاعت بعد فترة تغيير هؤلاء المشاغبين تربويا أولا ثم تعليميا، وهي واضحة تماما بنهاية الأحداث.
# نجحت المسرحية بالفعل في تقديم هذه الرسائل خلال أحداث القصة، ولكن ستنقلب هذه الرسائل رأساً على عقب إلى وباء إذا كانت تمثل واقعا سلبيا في المجتمع، والإفراط في تجسيد هذا الواقع بدون تقديم أية حلول ملموسة وعلاجا جذريا عاجلا، وهذا ماحدث بالتفصيل خلال أحداث المسرحية.
لم يُدرك صناع هذا العمل أن الكثير من العقول العربية تنساق وراء الهُراء بشتى أنواعه، دون الإلتفات لمغزى القصة أو ما الذي تناقشه الأحداث، لذا فالإفراط في تجسيد الواقع السلبي بشكل كوميدي يتقبله الجميع سيزيد من ترسيخ هذا الواقع في أذهان المشاهدين، بل سيحاولون بكل الطرق تجسيده بأنفسهم في حياتهم الواقعية بهدف المرح ” كما فعل أبطالهم المحبوبين “، ومن ثَم الإعتياد عليه كأمر طبيعي مسلم به.
يجب على التجسيد الساخر للواقع السلبي أن يكون مؤلما، أسود، ويلمس عقول المشاهدين قبل قلوبهم وهو مايسمى بالكوميديا السوداء .. عن طريق مناقشة القضية من خلال أحداث كوميدية تنتهي بمأساه ويتبعها تقديم الحلول والنصائح وتجسيد الواقع أيضا بعد تطبيق هذه الحلول.
ولعل أبرز مثال لهذه الحالة هو المسلسل التربوي الرائع الذي رافق طفولتنا ” يوميات ونيس ” الذي نجح في تجسيد الواقع السلبي بشكل كوميدي وبرع في تقديم الحلول والنصائح ..
لنُجري سويا مسحا سريعا على بعض السلبيات الرئيسية التي “تفننت” المسرحية في ترسيخها بعقولنا ..
السخرية من رموز العلم والتقليل من شأنهم
منذ بداية المسرحية إنتهجت الأحداث هذا النهج طوال القصة، بدأت في السخرية من رموز العلم، من ناظر المدرسة إلى المدرسين، والإستهزاء بهم لخلق إفيهات مضحكة، قد نعلم جميعا أن الأمر يندرج فقط تحت مسمى السخرية والكوميديا ولا يحدث إطلاقا في الواقع ..
ولكن يبدو أن من تحدث غفل عن “عقول” في غاية الأهمية؛ وهم عقول الأطفال والصغار الذين تربوا على هذا العمل ” الذي يُعرض باستمرار على القنوات المحلية” .
محت هذه المسرحية أصول ومبادئ تكنين الإحترام والوقارة لرموز العلم ولمن هم أكبر سنا منا، لا سيما إن كانت هذه المبادئ لا تُدرس ولا تُطبق بالأساس في المدارس !
تحويل المدرسة من مكان للعلم إلى مكان للمرح والأفعال المشينة
استحوذت المدرسة على 100% من أحداث المسرحية، أي أن جميع الأحداث وقعت داخل واحدة من أسمى دور العلم بل ومرتبطه بها، أي أن جميع “الإفيهات” بالمسرحية لا تصلح إلا لقولها داخل المدرسة فقط.
ومن هنا تحولت المدارس من دور للتربية والتعليم إلى مستنقع إفيهات تيمنا بالمسرحية وأبطالهم المحبوبين بغرض التقليد والمرح ليس إلا.
التحرش !
واحدة من أغلظ الكلمات التى قد تسمعها أو تقرأها، ولكن كما تسرى العادة للأسف الشديد يجب أن يكون داخل أي عمل فني “عامل جذب أنثوي”.
يعاني المجتمع العربي بالأساس من مشاكل التحرش؛ ليس التحرش الجسدي فقط، بل التحرش اللفظي ومجرد النظر أيضا .. فما بالك إن كانت جميع أنواع هذه التحرش داخل المدرسة ! حتى وصلت إلى تمزيق الملابس.
تهميش الجانب الإيجابي والتركيز على أصدقاء السوء
لم تتسم جميع شخصيات المسرحية بالسلبية والجنون، دائما مايكون هناك شخصا إيجابيا يحاول أن يُعدل الأوضاع من حوله وإعطاء النصائح .. ولكن للأسف إنقلب هذا الجانب الإيجابي رأسا على عقب بسبب تهميشه والتعامل مع جديته ونصائحه على أنها هُراء من قبل الشخصيات الأخرى المهيمنة على الأحداث.
مما أدى إلى عدم الإلتفات تماما لما تقوله هذه الشخصية بل والتعامل مع هذه النصائح على أنها فقرات ثقيلة وغليظة لا داعي لوجودها بين الأحداث.
# يقع اللوم الأكبر على القنوات التليفزيونية المحلية والخاصة التى استمرت بعرض المسرحية مرارا وتكرارا طوال الأربعون عاما الماضية، ومازالت مستمرة حتى الان، إلى أن إعتبرها الجميع إرثا فنيا خالدا.
قد يكون الحل ليس في الإمتناع عن مشاهدة هذا العمل، فلست هنا الآن أكتب هذه الكلمات لحث الجميع للإمتناع عن المشاهدة بعد 40 عام أي قبل أن أولد بسنوات ..
ولكن الحل هو تغيير العقول العربية والإرتقاء بعقول الأطفال وهو ما مازال متعثرا من قبل عرض المسرحية حتى الآن.
لننتقل الآن إلى عمل مسرحي آخر لا يقل أهمية عن العمل السابق ويحمل تقريبا نفس أبطال مسرحية مدرسة المشاغبين، وهي مسرحية “العيال كبرت” ولكن هذه المرة ليست في المدرسة، ولكن أسوأ .. داخل المنزل !
عُرضت المسرحية لأول مرة عام 1979 أي بعد ستة أعوام من عرض مدرسة المشاغبين، تدور الأحداث حول حياة مجموعة من المراهقين داخل المنزل وتصرفاتهم تجاه والديهم، بالاضافة إلى اكتشاف شخصيات المسرحية وجود رسائل غرامية بين والدهم وامرأة أخرى، وكالعادة هناك عدة رسائل تناقشها المسرحية ألخصها في الآني ..
الرسائل المبنية عليها المسرحية
1- مناقشة إحدى أسباب التشتت الأسري
هدف المسرحية الأول هو تجسيد التشتت الأسري الذي يأتي سببا لعدم إهتمام الأب والأم بتربية الأبناء وإنشغال كل منهما في حياته الشخصية والعملية، بالاضافة إلى إنعدام الأخلاق السائد بين الأبناء والشباب بشكل عام.
2- إهمال الأب “بشكل خاص” للأبناء والنتائج المترتبة على ذلك
الرسالة واضحة خلال أحداث المسرحية، وهى إهمال الأب الشديد للأبناء وعدم الرقابة عليهم، واعتقاده بأن النقود هى حل جميع المشاكل ولكنها هي أساس كل المشاكل، بالاضافة إلى تفكيره في ترك زوجته وأبنائه والزواج بامرأة أخرى، هي واحده من المشاكل التي تتكرر بشكل هائل في المجتمع العربي.
# هل نجحت المسرحية في تقديم هذه الرسائل؟ .. الإجابة هي نعم، برعت المسرحية في تجسيد جميع هذه المشاكل بشكل كوميدي ساخر، أعلم جيدا أنك تذكر جميع أحداث المسرحية ولكن .. هل تتذكر نهاية المسرحية؟ هل تذكر كيف عالجت المسرحية هذه المشاكل؟ نعم بالكاد تتذكر !
أعطى صناع المسرحية تجسيد المشاكل حوالي أكثر من ثلاثة أرباع وقت المسرحية، حيث اكتفوا بتجسيد المشاكل فقط أولا ثم تقديم حل صغير للمشكلة في النهاية .. مما أدي إلى تشبع العقل بكمية السخرية والضحك في البداية ونسيان أمر العلاج أو حتي غلق المسرحية بمجرد الإنتهاء من الضحك والدخول في الجد.
المسرحية موجهة بشكل خاص لأصحاب العقول الواعية، وليست موجهة للأطفال .. ولكن ماحدث هو العكس، أصبحت المسرحية واحده من المسرحيات “العائلية” المقدسة التي لا يخلو منها أي منزل، يتجمع حولها جميع أفراد المنزل، الصغير قبل الكبير حتى تطبع الأطفال والشباب بالطباع السلبية التي تجسدها شخصيات المسرحية.
وكالعادة تفننت المسرحية في ترسيخ بعض السلبيات في عقولنا جميعا ألخصها فيما يلي ..
أساليب التعامل “الغير أخلاقية” مع الوالدين
في الواقع برعت المسرحية في تقديم جميع أساليب الإنحطاط الأخلاقي، والتي قُدمت عن طريق السخرية مما أدى إلى ترسيخ جميع “الإفيهات” الساخرة في العقول وترديدها في المنزل، مما أدى بدوره إلى رؤية هذه الأفعال أمر طبيعي مسلم به للضحك فقط.
تشويه صورة الأب والأم
لطالما كانا الأب والأم شيئا مقدسا لدى الجميع، فهما مثال للقدوة والشرف .. ولكن أظهرت المسرحية الأب أولا بشكل ماجن غير متحمل للمسئولية، يتقبل بكل الأشكال سخرية أبنائه منه وحتى مناداته بإسمه ” يارمضان” ، والأم ثانيا بأنها غير متحملة للمسئولية أيضا، على جهل تام بما آل إليه حال الأبناء بل والسير في طريقهم نحو الضياع.
# يقع اللوم الأول والأخير على القنوات التليفزيونية التي استمرت بعرض هذه الأعمال مرارا وتكرارا في جميع المناسبات وبدون مناسبات، واعتبرتها واحدة من المسرحيات العائلية المناسبة لجميع أفراد الأسرة.
على الجانب الآخر.. إذا قمنا بمقارنة هذه الأعمال بالأعمال التي تتشبع بها السينما العربية والتليفزيون العربي اليوم، سترون بأنفسكم الحال الذي آل إليه الفن العربي الذي “ربما” بدأ بمسرحيات وأعمالا فنية قديمة مثل هذه، واستمرت على نفس المنوال لسنوات.
في النهاية .. قد يتسم المقال بالعمق والجدية الشديدين، خاصة أن الحديث عن أعمال هزلية وساخرة لطالما ضحكنا لها صغارا وكبارا، ولكن بالنهاية أعلم أنني والقراء الأعزاء على وعي شديد بأن أحداث هذه الأعمال الساخرة سلبية وغير مقبولة وماهي إلا للضحك فقط..
ولكن لم يُدرك صغارنا ذلك على مدار ثلاثة عقود ولن يدرك صغارنا القادمون ذلك وهنا يكمن الخطر الحقيقي.
ولكن لم يُدرك صغارنا ذلك على مدار ثلاثة عقود ولن يدرك صغارنا القادمون ذلك وهنا يكمن الخطر الحقيقي.
ليست هناك تعليقات: